في الوقت الذي بدأت تقل فيه الاحتجاجات المنددة بالرسوم الكاريكاتورية الدانمركية، يقف مسلمو أوروبا المعتدلون أمام خيارات صعبة تخص عقيدتهم وهويتهم وقيمهم. يقول عمر شاه، وهو معلق دانمركي من أصل أفغاني متخصص في الشؤون الإسلامية: "الأغلبية المعتدلة مضطرة إلى توضيح موقفها إزاء المسألة".
وخلال شهر من الاحتجاجات المنددة بالرسوم الكاريكاتورية للرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) في أوروبا، لوحظ أن أصوات الراديكاليين الإسلاميين كانت هي الأقوى. ولكن لما بدأت نيران الأزمة في الخمود، بدا من الواضح أن مسألة الرسوم الكاريكاتورية قد فجرت نقاشات صعبة في أوساط الجالية المسلمة في أوروبا والبالغة نحو 20 مليون شخص. ورغم أن المنظمات الراديكالية قد اكتسبت قوة ونفوذا، إلا أن الجماعات المسلمة "التقدمية" بدأت تتحدى تدريجيا الأفكار التقليدية.
ففي الدانمرك التي شهدت نشر الرسوم الكاريكاتورية لأول مرة، أسس المسلمون الراغبون في العيش في مجتمع دانمركي متعدد وعلماني ومتسامح، منظمة جديدة للترويج لأفكارهم. يقول فتحي العابد، المتحدث باسم المنظمة، واسمها "المسلمون الديمقراطيون"، "نريد أن نقول لهم إننا ديمقراطيون مثلهم، والفرق الوحيد بيننا هو أننا من مرجعية إسلامية". ويضيف العابد، وهو من أصل باكستاني، "لقد جئت إلى الدانمرك منذ 17 عاما، ولم أشأ المشاركة في النقاش الدائر حول موضوع الاندماج، إيمانا مني بأن كل شيء سيكون على ما يرام. ولكن منذ أن بدأت هذه الأزمة، قررت ألا أسمح بعد الآن للآخرين بالتحدث باسمي".
ويعد زعيم المنظمة الجديدة ناصر خدير، وهو سوري المولد وعضو بالبرلمان الدانمركي، عن "الديمقراطيين الاجتماعيين"، شخصية معروفة في الساحة السياسية الدانمركية. ولعل أحد أسباب شهرته، وهو الذي يصف نفسه بـ"المسلم الثقافي"، يعزى إلى كونه صاحب "الوصايا العشر من أجل الديمقراطية" التي تدعو فيما تدعو إليه إلى ضرورة الفصل الصارم بين الدين والسياسة، والدعم القوي وغير المشروط لحرية التعبير، إضافة إلى نبذ العنف. وحسب شاه، فإن "الدانمركيين ينظرون إلى خدير كمسلم مثالي، إلا أن العديد من المهاجرين يعتبرونه خائنا يهاجم الإسلام، بل إن بعضهم يكرهونه في الواقع".
أما في بريطانيا فقد دافعت جمعية "المسلمين البريطانيين التقدميين" عن حق الصحف في نشر رسوم للرسول (عليه الصلاة والسلام)، حيث قال الدكتور شاز محبوب، المتحدث باسم الجمعية، في بلاغ لها: "إذا كان محرما على المسلمين تصوير الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام)، فلابد من التذكير بأن العيش في مجتمع متعدد وعلماني يفرض على المسلمين ألا يتوقعوا من أولئك الذين لا يعتنقون الإسلام أن يتقيدوا بحدوده".
وبموازاة مع شروع الجماعات المسلمة المعتدلة في تنظيم نفسها، بدأت الجماعات الراديكالية بدورها تنظم صفوفها وترتيب أوراقها، فبعد أشهر مما يشبه الاختفاء عن الساحة العمومية في أعقاب تفجيرات لندن، طفت على السطح من جديد جماعة "الغرباء" التي تعد من أكثر جماعات بريطانيا راديكالية، وذلك للاحتجاج أمام السفارة الدانمركية والمطالبة بقتل راسمي تلك الرسوم الكاريكاتورية. وتعليقا على هذا الحدث، يقول عبدالرحمن مالك من مجلة "كي نيوز" الإسلامية": "إن المظاهرة شكلت بالنسبة لهم وسيلة لإعادة فرض أنفسهم داخل الجالية المسلمة. وهم يحاولون بذلك استرجـاع المساحات التي فقدوها".
هذا وعمدت الجماعة إلى استعمال الإعلانات لانتقاد التعددية الثقافية والاندماج، سبيلا لاستقطاب المسلمين، كما هاجم المتحدث باسم الجماعة أنجم شوداري المنظمات التي تمثل التيار الغالب مثل "المجلس الإسلامي لبريطانيا" و"الجمعية الإسلامية لبريطانيا". ويقول شوداري عن هاتين الهيئتين: "إنهما لا تمثلان سوى نفسيهما"، مضيفا أنهما "تخدمان حكومة بلير. ولو أن المجلس الإسلامي لبريطانيا دعا إلى تنظيم مظاهرة، فلم يكن سيشارك فيها أحد".
واللافت أن جماعة شوداري أصبحت منئذ أكثر حضورا، ففي أحد أيام السبت من الشهر المنصرم مثلا كان ثلاثة من جماعة "الغرباء" يقومون علنا بإقناع المارة بالانضمام إلى الجماعة في أحد الأزقة التجارية المزدحمة شرق لندن. يقول علي، بينما واصل زميلاه توزيع مناشير حول الإسلام على غير المسلمين من المارة: "نريد أن نقول للغرب إنه غير مسموح لك أن تملي علينا ما ينبغي أن نقوله". أما بالنسبة للمسلمين فقد كان علي وزميلاه يوزعون مناشير من قبيل "الالتحاق بالشرطة: مساهمة أم كفر؟". ويضيف علي بينما يقوم زميلاه بإخفاء مجموعة من المناشير التي كتب عليها "اقتلوا من أساء إلى النبي"، "سنقول أي شيء يأمرنا به ديننا". ويقدر المتطوعون الثلاثة أنهم وزعوا أكثر من 500 منشور ذلك الصباح إذ توقف العديد من المارة للحديث معهم.
واللافت أنه في محاولة للتنافس مع جماعات مثل "الغرباء"، أصبحت المنظمات الإسلامية في بريطانيا التي تمثل التيار الغالب أكثر راديكالية، حيث أعلن الدكتور عزام تميمي، من "الجمعية الإسلامية لبريطانيا"، أثناء مظاهرة شهدتها سا