لاحظنا بعد الزيارة الأخيرة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، إلى المنطقة العربية، أن عدداً من الأقلام في الصحافة المصرية قد عبّر عن نوع من خيبة الأمل نتيجة لتراجع قضية الإصلاح الديمقراطي في أحاديث الوزيرة لصالح القضايا الإقليمية الأخرى. وكان هذا التعبير المحبط صورة معكوسة لتوقعات هذه الأقلام والتي ظهر على نحو جلي، أنها تعلق طموحاتها بتحقيق إيقاع أسرع لعملية الإصلاح خاصة في الجانب الديمقراطي، على الضغوط الخارجية أكثر مما تعلقها على عملية التطور الداخلي. وفي تقديري أن هذا التعويل من بعض أصحاب الأقلام العربية على الدفع الخارجي لا يقل خطورة على سلامة المجتمعات العربية من محاولات تقوم بها القوى المحافظة للحفاظ على الأوضاع في حالة الجمود. إن أمامنا اتجاهين إذن، ويمكننا أن نطلق على الأول اتجاه الإسراع بالتحول الديمقراطي اعتماداً على الدفع الخارجي، وأن نطلق على الثاني اتجاه الإبطاء في التحول عن طريق تخويف المجتمع من توابع الضغط الخارجي وعواقبه.
ولقد شهدت القاهرة عدة حلقات للنقاش حول مخاطر كل من الإسراع والإبطاء في عملية التحول الديمقراطي، وكانت أسانيد أصحاب رؤية الإبطاء مستقاة من التجربتين العراقية والفلسطينية. من التجربة العراقية تم التركيز على الارتباط بين الدفع الخارجي وبين ظهور عدة أعراض في المجتمع العراقي، أولها التفاعلات السياسية الحادة والتي تصحبها نزاعات داخلية مسلحة بين القوى الاجتماعية والطائفية المختلفة.. وثانيها ما أسماه بعض الباحثين مساس عملية التحول الديمقراطي بهياكل الدولة ذاتها، وهو المساس المتمثل في تفكيك الدولة المركزية وظهور نمط الفيدرالية لتقسيم السلطة والثروة. وقد قوبل هذا التحليل الذي يحاول الربط بين مشكلات الحالة العراقية وبين الإسراع في التحول الديمقراطي بتحليل مضاد رأى أن الربط في غير محله وأن الأعراض العراقية ناتجة عن حالة فوضى أنتجها الاحتلال الأجنبي، وعن حالة تفكيك متعمد للدولة المركزية أدت إلى حالة فراغ وليس إلى حالة تحول ديمقراطي. وبالتالي رأى أصحاب التحليل المضاد أن استخدام الأعراض العراقية كوسيلة للدعوة إلى حكمة الإبطاء في التحول الديمقراطي هو استخدام في غير محله بالنسبة للمجتمعات غير المعرضة لتجربة الاحتلال الأجنبي. أما من التجربة الفلسطينية فقد حاول أصحاب رؤية الإبطاء دعم رؤيتهم بعرضين ظهرا في نتائج الانتخابات التشريعية. العرض الأول هو عرض حياد عملية الانتخابات وشفافيتها ونزاهتها بشهادة المراقبين الدوليين الذين عايشوها، وهو عرض أدى إلى تمكين غالبية الجماهير الناخبة من التعبير عن رفضها لنمط الأداء الداخلي لسلطة "فتح" بطريقة أطاحت بهذه السلطة من مقاعد الأغلبية في المجلس التشريعي، وفي مقاعد الحكومة على حد سواء. وقد رأى أصحاب رؤية الإبطاء في هذا الانقلاب تهديداً للاستقرار السياسي والمجتمعي بل والأمني، خاصة إذا تم الأخذ به في المجتمعات المجاورة لفلسطين التي اعتادت على النظم المستقرة لفترات طويلة. أما العرض الفلسطيني الثاني الذي رأى فيه دعاة الإبطاء الديمقراطي مبرراً قوياً لدعوتهم، فهو عرض تصاعد العامل الديني في الحياة السياسية، وهو ما رتب صعود حركة "حماس" إلى السلطة التشريعية والتنفيذية. وبالمثل قوبل هذا التحليل المعضد لرؤية الإبطاء الديمقراطي في العالم العربي، بتحليل مضاد رأى أن مخاطر جمود الأداء الحكومي وترهله كما هو الحال في التجربة الفلسطينية دون إفساح الفرصة لتغييره بالصندوق الانتخابي، هي مخاطر قابلة لمزيد من التراكم الذي لن يجد له منفذاً غير الانفجار السياسي والاجتماعي، وهو ما يعني بالفعل تعريض استقرار وأمن المجتمع لهزات عنيفة مدمرة.
كذلك رأى أصحاب هذا التحليل المضاد أن تصاعد دور العامل الديني في الحياة السياسية، يأتي هو الآخر كنتاج حتمي للتراكمات السلبية في الأداء الحكومي، وضعف وسائل المشاركة الشعبية في صناعة القرار الحكومي ومحاسبته وتعديل مساراته إذا ما انحرف خلال التطبيق. وهو ما يسمح لأنصار الدعوة الدينية بالعمل في مناخ مواتٍ لهم.
إن هذا النقاش الجاري بين النخب السياسية والثقافية في مصر، هو علامة على تنامي حالة حراك فكري سياسي تقلب التجارب المحيطة على وجوهها المختلفة، وتبحث بقدر كبير من التركيز دور العامل الخارجي على نحو خاص في عملية التحول الديمقراطي وتحاول التوصل إلى أحكام متوازنة بشأن تقييم هذا الدور، بحيث لا يتحول إلى معول هدم لسلامة المجتمع كما حدث في العراق، ولا يستخدم من جانب القوى المحافظة كفزاعة من التحول الديمقراطي المتسارع في نفس الوقت.