إذا كانت السلطة التنفيذية في بعض دول العالم الثالث مستأثرة بكل السلطات وقادرة على اتخاذ أي قرار تريده فلماذا لا تنفذ الأجهزة المعنية الخاضعة لإدارتها الوعود التي تعد المواطنين بها؟ الجواب المنطقي هو أن تلك الوعود لا تعدو أن تكون جزءاً من لعبة مسرحية وتبادل أدوار. فهذه السلطة بوعودها تكسب رضى الناس والأجهزة التنفيذية لخدمة الحاكم تقبل أن تنصبّ الاتهامات عليها لامتصاص غضب الناس. لكن المحصّلة النهائية هي بقاء النظام السياسي ومن ورائه من قوى أطول مدة واستمرار الأمل الكاذب عند الناس في مجيء الفرج مستقبلاً على يد الحاكم المخرج للمسرحية. ذكّرني ذلك بمسرحية رحيل حاكم واعتلاء آخر كرسي الحكم. كانت الوعود للحاكم الجديد حديث الصحف كلها وكانت آمال جماهير ذلك البلد كبيرة. ما إن مرت سنوات قليلة حتى بدأت الصحف ذاتها تتحدث عن التراجعات وكسر الوعود الأساسية. وقد تكرر المشهد ذاته في العديد من الأمكنة والأزمنة: أنظمة قديمة تذهب وأنظمة جديدة تبزغ، ووعود لا حصر لها يسمعها الجمهور فيصفق طويلاً ويهتف ليكتشف بعد فترة أن المحصّلة النهائية هي الشراب المر المذاق ذاته مسكوب في قنينة جديدة، لكن الطعم والرائحة والمكونات لم تتغيّر قط .
ليس ما نذكره بجديد فالقاصي والداني، يتحدث عن هذه الظاهرة المتكررة المتفاقمة باستمرار. ما يهمنا هو أساليب التعامل المفجعة معها. ما يلاحظ هو :
1- قدرة البعض على إعطاء الحاكم المراوغ فرصة ثانية وثالثة ورابعة لممارسة كذبه، وتصديقه في كل مرة، بحيث تمر الأيام والسنون دون أن تصل المسرحية إلى نهايتها. هذه القدرة على النسيان المتكرر تعبّر عن غياب للحزم الأخلاقي عند مكونات مجتمعاتنا التي من المفترض أن تراقب وترصد وتفضح ثم تعارض في مراحل مبكرة وقبل أن يستفحل الأمر.
2- تعامل هؤلاء بشكل فج صبياني من حماس غير متزن إلى تصفيق ومدح غير مبرر، وكأن تلك الوعود هي منح من السماء، وليس كجزء من حقوق العباد الإنسانية الثابتة. وهم بهذا الحماس والعواطف المتدفقة يخلقون جواً من القداسة لصاحب الوعود ورهبة من قدراته المتخيلة، تترسخ في أذهان الناس وتمنعهم من الاكتشاف المبكر لأكاذيب اللعبة والخروج من المسرح وترك اللاعبين يكذبون على بعضهم بعضاً.
3- الإصرار على لوم البطانة التي تحيط بالحاكم كمصدر لكسر الوعود بدلاً من لوم الحاكم نفسه. وينسى الجميع أن الحاكم يتحمل المسؤولية السياسية الكاملة لاختيار أفراد بطانته ويتحمل المسؤولية الأخلاقية لتصرفاتهم. والواقع أن وضع اللوم على بطانة الحكم وتبرئة الحاكم أصبح تفكيراً أساسياً راسخاً في الواقع، وأصبح يمثل معضلة تشل تعامل المجتمعات مع من يتجاوزون الحدود.
منذ وضع الكاتب الإيطالي مكيافيلي كتابه "الأمير" وبيّن قواعد الكذب الضرورية في الحياة السياسية والعالم كله يدور في حلقة الكذب الجهنمية. لكن، بينما تستطيع مكونات المجتمعات الديمقراطية المتقدمة أن تكشف ألاعيب الكذب بصورة مبكرة، كما فعلت مثلاً مع أكاذيب بوش وبلير، فإن بعض المجتمعات تسمح وتتسامح لفترات طويلة. في بلاد العالم يستطيع الحكام أن يكذبوا كل الوقت على جزء من شعوبهم وأن يكذبوا بعض الوقت على كل شعوبهم، لكن في بعض دول العالم الثالث، فإن الحاكم استطاع أن يكذب على كل الناس كل الوقت وينجح في ذلك. في تراثنا الإسلامي أنه مازال المرء يكذب ثم يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، فمتى يا ترى سنعي أنه مازال الحاكم يكذب ثم يكذب حتى يكتب عند الشعب كذاباً؟ عند ذاك سيصبح تاريخ كثير من الحكام كذباً في كذب.