نتيجة مدهشة ما زالت استطلاعات الرأي العام في إسرائيل تظهرها، وهي أن حزب "كاديما" الذي أسسه آرييل شارون قبل أسابيع قليلة على مرضه، يحلق عالياً بالرغم من عدم وجود أمل طبي في شفاء مؤسسه، فكيف يعيش حزب غاب زعيمه قبل أن يبني أي مؤسسة من مؤسساته، بل تركه أقرب إلى مشروع في طور التنفيذ منه إلى بناء اكتمل، أو أوشك حتى على الاكتمال؟
غاب الزعيم سياسياً عندما رقد في غيبوبة عميقة، ولكن حضور الحزب استمر وتحليقه في سماء الحياة السياسية الإسرائيلية تواصل. كان هذا مفهوماً لأيام، وربما لأسبوعين أو حتى لشهر كامل، مفهوم أن يتعاطف مؤيدو شارون معه في محنته، وأن يعبروا عن ذلك تأييداً لحزبه، ومفهوم أن يتمسك أنصار شارون بأمل في أن يفيق ويعود وأن يكون التفافهم حول حزبه تعبيراً عن هذا الأمل. ولكن كيف نفسر استمرار هذا الالتفاف حسب استطلاعات الرأي العام، بعد أن قال الطب كلمته وأكد الأطباء أنه لا أمل طبياً في أن يعود شارون إلى الحياة.
نحن، إذن، إزاء ظاهرة غير معتادة في تاريخ الأحزاب السياسية وفي علاقة الحزب بزعيمه المؤسس، هذه الظاهرة قد تصنع، إذا استمرت حتى يوم الانتخابات في 28 مارس، مجد شارون الذي لم يمهله القدر حتى يحققه عبر إكمال العمل الذي بدأه منذ إعادة تنصيبه رئيساً للوزراء في عام 2003. وصل شارون خلال العامين الأخيرين إلى مكانة لم يحلم بها، ولم يسبقه إليها رئيس وزراء إسرائيلي بدا كما لو أنه يسابق الزمن لإكمال مشروعه لتصفية قضية فلسطين مقابل التخلي عن جزء مما يطلق عليه "أرض إسرائيل الكبرى". كان عليه أن يعمل بمعدلات أعلى مما يتحمله عمره، وهو الذي تميز بقدرة غير عادية على العمل الشاق المتواصل وبإرادة حديدية.
وبالرغم من أن جسده لم يصمد حتى يكمل مشروعه، فقد أنجز في السنوات الأخيرة، وخصوصاً منذ 2003، ما جعله يتحول إلى زعيم غير منازع في المجتمع السياسي الإسرائيلي، فقد نجح في اتخاذ خطوات كبيرة مبادرة انطوت على تحول أيديولوجي صعب. فالرجل الذي لعب أحد أهم الأدوار في صعود "اليمين" الإسرائيلي هو الذي وضع حداً لأهم ركائز هذا "اليمين" سياسياً وفكرياً، وهو مبدأ (أرض إسرائيل الكبرى). وبعد أن قاد التوسع الاستيطاني، كان هو الذي قرر إخلاء مستوطنات غزة كلها وأربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية، بل كان مشروعه للتسوية النهائية يقوم على الانسحاب من مستوطنات أخرى في الضفة في مقابل الاحتفاظ بما أسماه الكتل الاستيطانية الكبرى.
كان شارون يسابق الزمن من أجل تطبيق مشروعه سواء عبر التفاوض مع السلطة الفلسطينية، أو من جانب واحد على النحو الذي فعله في إطار "خطة الفصل الأحادي" مع الفلسطينيين في قطاع غزة.
لم يكن هناك شك في أن شارون سيعود رئيساً للحكومة للمرة الثالثة عقب الانتخابات المبكرة في 28 مارس المقبل، ولو كان القدر قد أمهله لحقق ما لم يسبقه إليه أي سياسي في تاريخ إسرائيل، فلم يتولّ أحد رئاسة الحكومة ثلاث مرات أبداً، كما لم يحدث من قبل أن انسحب زعيم إسرائيلي من حزب كبير وخاض الانتخابات التالية على رأس حزب جديد فحقق فوزاً، ناهيك من أن يحرز التفوق الكبير الذي كان متوقعاً لشارون في الانتخابات القادمة. فما أن انسحب من حزب "الليكود" الذي يعود إليه الفضل الأول في تأسيسه، وأعلن البدء في بناء حزب "كاديما"، حتى صعد هذا الحزب الجديد بسرعة صاروخية إلى سماء الحياة السياسية الإسرائيلية. فقد أعطته استطلاعات الرأي العام تفوقاً ساحقاً بمقاييس الأوزان النسبية للأحزاب في إسرائيل.
وكان واضحاً أن حزب "كاديما" هو حزب شارون أولاً وأخيراً، وأن اسمه الذي اختاره له (يعني بالعربية إلى الأمام) لن يكون على مسمىً إلا لأن هذا الرجل سيقوده، ويضفي عليه من شعبيته. وحزب هذه ظروف نشأته يدخل -حسب التصنيف التقليدي للأحزاب السياسية- ضمن أحزاب الأشخاص التي ترتبط بزعيم سياسي كبير. وأحزاب الأشخاص نوعان: أولهما يكتسب بعد تأسسه وجوداً مستقلاً عن الشخص المؤسس بدرجة أو بدرجات. غير أن هذا يحدث بعد فترة لم تتوفر في هذه الحالة، فقد غاب شارون قبل قطع الحبل السري الذي يربطه بحزب "كاديما". والنوع الثاني من أحزاب الأشخاص لا يلبث أن يطويه النسيان. وفي تاريخ إسرائيل حالة مشهورة لزعيم من طراز فريد هو ديفيد بن جوريون مؤسس الدولة اليهودية، فبالرغم من مكانته الهائلة، فشل في بناء حزب جديد "رافي" عندما ترك حزب الماباي "العمل الآن"، وقرر أن يبدأ من جديد.
غير أن الفرق الذي قد يكون أهم بين حال "كاديما" الآن وأية خبرة أخرى لأحزاب الأشخاص، هو أن شارون كان قد بدأ يبلور تياراً جديداً في السياسة الإسرائيلية، تيار وسطي يميل إلى "يمين الوسط". وقد بدا في العام الماضي تحديداً أن هناك حاجة موضوعية إلى هذا التيار، لأن حزب "الليكود" عانى من مزايدات قادة فيه خططوا لأخذه إلى أقصى "اليمين"، فيما كانت إحباطات حزب "العمل" تدفعه للانتقال من "يسار الوسط "إلى "اليسار". ومن شأن مثل هذا التطور في أي نظام حزبي أن يخلق استقطاباً حاداً. وفي حال إسرائيل،