لم يكن مضمون الدعوة المحمدية، من القول بالتوحيد، وشجب الشرك وعبادة الأصنام، والقول بالبعث والحساب والجنة والنار.. الخ، هو وحده الذي صدم مخيال قريش ومنعهم من التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، بل لقد أثار القرآن، بوصفه نظما من الكلام لم يعرفوا له مثيلا من قبل، حيرتهم إذ وجدوه يقع خارج أنواع الخطاب التي اعتادوها.
تنقل إلينا الروايات بهذا الخصوص مناقشة جرت بين زعماء قريش بمناسبة حلول أحد المواسم التي كانت تقام في مكة وتحضرها القبائل العربية، وكان النبي في مثل هذه المناسبات يقوم بالدعوة. كان الهدف من الاجتماع الاتفاق على نعت للخطاب القرآني يمكن أن يصرف الناس عنه، كوصفه بالكهانة والشعر والسحر... الخ. غير أن كبيرهم، الوليد بن المغيرة الذي دعا إلى الاجتماع، نبههم إلى اختلاف الخطاب القرآني عن هذه الأنواع، لافتا نظرهم إلى أنهم إن وصفوه بذلك "عُرف أنه باطل". ثم أضاف: "إن أقرب القول فيه لَأَن تقولوا: "ساحرٌ جاء بقول هو سحر يفرِّق به بين المرءِ وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته". ويضيف ابن إسحاق: إنهم اتفقوا على ذلك وأخذوا يعترضون القادمين إلى الموسم "لا يمر بهم أحد إلا حذّروه إياه، وذكروا لهم أمره".
الظاهر أن هذه الرواية صحيحة بدليل ما ورد في سورة المدثر في شأن الوليد بن المغيرة واقتراحه ذاك. قال تعالى عنه: "إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ" (المدثر 18-25).
على أن اتهام قريش للنبي بالجنون والكهانة والسحر كان جاريا قبل ذلك الاجتماع، وبقي جارياً بعده. يدل على ذلك رد القرآن عليهم في آيات متعددة تنتمي إلى مراحل مختلفة من الدعوة المحمدية، ذكرنا بعضها في المقال السابق. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا الآن هو التالي: لماذا أخرج كبراء قريش "الوحي" المحمدي من أنواع الخطاب التي استعرضوها؟ لقد ذكروا خطاب الشاعر وخطاب الكاهن وخطاب الساحر ولكنهم لم يذكروا خطاب الوحي، أو النبوة! فما الذي منعهم من ذلك؟
إذا نحن استعرضنا ردود القرآن على اعتراضاتهم على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإننا نجدهم يعللون عدم استجابتهم لها بجملة أمور أهمها:
- قالوا: إن محمداً بشر مثلهم! فلماذا يسلمون له بالنبوة والرسالة؟ وفي هذا يقول تعالى: "وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ... أََأُُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا"! (ص 4-8)، ويقول: "وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا!؟ (الإسراء-94).
- وقالوا: إذا كان الله قد أراد فعلا إرسال مبعوث إليهم، فلماذا لا يكون من كبرائهم حتى ينقاد الناس له. قال تعالى: "وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ (مكة والطائف) عَظِيمٍ"! (الزخرف-31).
- وفي آيات أخرى ما يفيد أنهم طلبوا منه أن يطرد من صفوفه من سموهم بـ"الأراذل"، أي الفقراء والعبيد، حتى يستجيبوا له. وقد رد القرآن عليهم بأن أمر الرسول أن لا يفعل ذلك. قال تعالى: "وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ" (الأنعام- 52).
- وقالوا: لو كان رسولا من الله حقا لجاء بمعجزة خارقة للعادة تميزه عنهم وتبرر انقيادهم له. قال تعالى: "وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه"! (الإسراء 90-92).
قد يكون لما ذكروه دور ما في رفضهم الاستجابة للدعوة المحمدية. ولكن لماذا تجاوزوا –في مرحلة ما من مراحل الدعوة المحمدية- مجرد الرفض وعدم الاستجابة إلى شن حملة من الاضطهاد والتعذيب على أتباع هذه الدعوة؟ ثم لماذا اضطروا إلى كتابة تعهد بينهم علقوه في الكعبة يلتزمون فيه بمقاطعة بني هاشم، عشيرة محمد، ووضع الرسول وأصحابه تحت الحصار في شِعب لعمه أبي طالب بالجبل المطل على مكة؟
يقدم لنا الطبري رواية تجيب على هذا السؤال ومفادها أن النبي لما دعا قومه إلى الإسلام "لم يبعدوا منه أول ما دعاهم وكادوا يسمعون له، حتى ذكر طواغيتهم (أصنامهم)، وقدم