بثت قناة "الجزيرة" ليلة أول من أمس شريطاً مسجلاً تنطَّع فيه الإرهابي الطريد أيمن الظواهري، مقدِّماً "نصائح" و"توجيهات" بل "إملاءات" سياسية لقادة حركة "حماس"، دعاهم فيها إلى عدم التعاطي مع الحياة السياسية الفلسطينية بمن فيها من "علمانيين"، ولا مع عملية السلام التي وصفها بأنها "استسلام"، مركزاً بشكل خاص، وبطريقته التكفيرية المكررة، للمرة الألف، على تسفيه كل مسعى للعقلانية والحوار والتفاهم مع الآخر، سواء أكان هذا الآخر داخلياً أم خارجياً. وجاء ضمن "الخطبة الظواهرية العصماء"، كالعادة، كلام عائم كثير آخر، عن قضية الرسوم، والحجاب في فرنسا، للتذكير بنفسه وبأنه ما زال موجوداً، حتى لو كان ذلك الوجود في جبال وكهوف ينعق فيها البوم والشؤم. وما يهمنا نحن هنا، ليس بسْط سخافات الظواهري، أو مناقشة كلامه منقطع الصلة بأي منطق سليم. ما يهمنا هو الرد الذي جاء دون تأخير من قيادة "حماس". تصوروا أن زعيم "حماس" ورمز "عقلانيتها" المزعوم إسماعيل هنية بدأ رده على طلب الظواهري التكفيري، موجهاً كلامه إلى "الأخ الدكتور"... تخيَّلوا معي مَنْ يقصد؟! إنه يقصد الإرهابي أيمن الظواهري، طريد "تورا بورا" الذي ألحق بسمعة الإسلام من الضرر ما عجز شارون وشامير عن إلحاقه، والذي جعل أي مسلم مشبوهاً في أي رقعة من العالم حتى يثبت العكس! وبعد هذا يخاطبه هنية بـ"الأخ الدكتور"، هل هذا منطق عاقل يناسب موقع رجل دولة يفترض أن تتعلق في عنقه مصائر وأرزاق ملايين الفلسطينيين، الذين خرجوا بالآلاف لانتخاب حركته وللطفو بها على سطح الأحداث، بعد أن ظن الناس أن لن تقوم لها قائمة؟
لقد تعب أكثر من طرف عربي لتسليك حركة "حماس"، في المشهد السياسي الفلسطيني، وفي تعلم مبادئ عملية الأخذ والعطاء السياسية الدولية، وفي اللحظة التي بدا فيها أن تلك الجهود الصادقة، على الأقل على مستوى البواعث والنوايا، بدأت تؤتي أكلها، من خلال زحزحة الموقف الأوروبي، وإعطاء واشنطن إشارات بإمكانية إعادة التفكير في موقفها من "حماس"، وفي الوقت الذي تحدى فيه الرئيس الروسي، وهو زعيم دولة عظمى وعضو دائم في مجلس الأمن، المطالبات الغربية والإسرائيلية بعزل الحركة، ودعاها إلى موسكو ليسبغ عليها بداية اعتراف خارجي تفتقر إليه، في هذه الأثناء جاءت الطعنة، من الخلف ومن قادة "حماس" نفسها، بمثل هذا الموقف غير المحسوب، وغير العقلاني، بل غير السياسي بأي وجه.
وما لا يدركه هؤلاء هو أن خطاب ولغة الميلشيات، والمنظمات السرية، وشعارات تجييش الشارع ودغدغة مشاعر السذج والبسطاء والغوغاء، كل ذلك شيء، وممارسة السياسة وتحمل أعباء رعاية وخدمة وحماية ملايين المواطنين البسطاء شيء آخر. ذلك "جهاد" أصغر وهذا جهاد أكبر. فعبارات من قبيل المقاومة، والصمود، والكلام العائم المحموم، افتقدت قيمتها حتى التعبوية على الساحة الفلسطينية من فرط امتهانها وصرفها في غير مصارفها الشرعية، وأما "زهد" و"مبدئية" حماس، ونقاؤها و"تقَويَّتها" الإيديولوجية، وورعها السياسي المزعوم، فهي أمور يفترض أن تتجاوزها الآن، طالما أنها أصبحت حزباً حاكما، وطرفاً سياسياً في عملية براجماتية معقدة، لا مجال فيها لـ"المبادئ" الديناصورية، ولغة الادعاء الخشبية والضحك على الذقون.
ثم لماذا عدم التعامل مع العلمانيين وعدم الجلوس معهم تحت قبة البرلمان الفلسطيني اليوم؟ أليس العلمانيون مواطنين فلسطينيين؟ أليس المسيحيون مواطنين فلسطينيين، وتحملوا نصيباً من الدفاع عن القضية؟ ما هذه الرؤية الإقصائية المقيتة التي حث عليها الظواهري، ولم نرَ سوى تقبل لها، وتبنٍّ لها، إن لم تفضحه العبارة الصريحة، فقد قاله الإقرار والسكوت الصريح، من قبل هنية.
كنا نتمنى أن يقوم هنية بإدانة الظواهري، جهاراً نهاراً، وبتبصير العالم بجراح قضية فلسطين الفاغرة بفعل استعداء الإرهابيين لشعوب المعمورة ضد كل ما هو عربي وكل ما هو مسلم وكل ما هو فلسطيني، وأن يقول بعبارات واضحة إن الظواهري هو آخر من يحق له الحديث عن القضية الفلسطينية وهمومها المزمنة بعدما ألحقه بها من أضرار. ولكن هنية لم يفعل. وكنا -أخيرا- نتمنى على هنية أن يتقي الله في مصالح ومستقبل أبناء الشعب الفلسطيني، من خلال عدم فتح أية جبهات جديدة عليهم، وعدم إتاحة الفرصة لخنق إمكانات حل الصراع، وفتح أبواب أمل جديدة للعيش الكريم للفلسطينيين في جو من الرخاء والسلام. ولكنه لم يفعل أيضاً.
(إنك لا تهدي من أحببت ولكنَّ الله يهدي من يشاء).