في نضالها المستميت من أجل الدفع قدماً بحقوق الإنسان وفرض احترامها من قبل الجميع من دون استثناء تمر الأمم المتحدة اليوم بمنعطف مهم وحيوي في تاريخها. فقد قام الرئيس الحالي للجمعية العامة السويدي "يان إليانسون" بالإشراف على مفاوضات شاقة وطويلة على امتداد الخمسة أشهر الأخيرة بهدف صياغة مقترح يرمي إلى إصلاح لجنة حقوق الإنسان المنبثقة عن منظمة الأمم المتحدة. وبالرغم من الإنجازات العديدة التي حققتها لجنة حقوق الإنسان مثل اعتماد معايير محددة لاحترام حقوق الإنسان، وإبرام معاهدات في هذا الاتجاه، ثم وضع آليات لقياس أداء الحكومات والتزامها بالاتفاقيات الموقعة، إلا أنها مع مرور الوقت أصبحت حلبة للصراع السياسي أكثر منها قوة فاعلة موجهة إلى حماية ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وهو ما حتم عملية الإصلاح وجعلها مسألة عاجلة لا تحتمل التأخير.
وفي هذا السياق تقدم الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان باقتراح جريء السنة الماضية يطالب فيه باستبدال اللجنة الحالية لحقوق الإنسان بهيئة جديدة تكون أرفع مستوى وأنجع أداء. وقد فتح هذا الاقتراح المتبصر المجال واسعاً أمام الحكومات لمناقشة مقتضيات الهيئة الجديدة والتباحث حول صيغتها النهائية لتكون محل قبول من جانب أغلبة الدول دون تحفظ. واليوم بعد انقضاء فترة المفاوضات توصل الرئيس الحالي للجمعية العامة إلى مشروع قرار يضم العديد من النقاط الإيجابية التي حظيت بدعم ومساندة الأغلبية العظمى من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. ومع ذلك لم يتردد البعض في الجهر بمعارضته للمقترح معتبرا أنه ضعيف ولا يستجيب للتطلعات الدولية. لكن بإمعان النظر في مقتضيات مشروع القانون المطروح حالياً على الجمعية العامة للأمم المتحدة نكتشف أن تلك الانتقادات لا أساس لها من الصحة. فقد أحدث المجلس معايير جديدة تضمن احترام الدول لحقوق الإنسان وحماية الضحايا الذين تعرضوا للانتهاكات في تنسيق تام مع المجلس، فضلاً عن خضوع الدول إلى مراقبة دورية يقوم بها باقي الأعضاء. والأكثر من ذلك نص مشروع القانون الذي اقترحه الأمين العالم للأمم المتحدة على تعليق عضوية الدول التي تنتهك حقوق الإنسان بصفة منتظمة في المجلس.
وتنص قوانين المجلس أيضا على أن عملية انضمام عضو جديد إلى الهيئة لا تكون إلا عبر موافقة غالبية أعضاء الجمعية العامة، بدلاً من تعيينهم من قبل المنظمات الإقليمية كما كان يتم في السابق. ونعتقد أنه من خلال هذه الإجراءات الجديدة التي تنظم أسلوب التحاق الأعضاء بالمجلس وتضع لأول مرة معايير مضبوطة للانضمام سنخرج بمجلس جديد لحقوق الإنسان يضم دولاً مستعدة للالتزام التام بحقوق الإنسان والنأي بنفسها عن الخروقات التي شابت بعض أعضاء لجنة حقوق الإنسان الحالية. وبدلاً من أن يتم عقد اجتماعات سنوية لتدارس التطورات الحاصلة في مجال حقوق الإنسان التي غالباً ما تأخذ صبغة سياسية، فإن المجلس الجديد سيلتئم في اجتماعات مكثفة تجرى على مدار السنة لمعالجة القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، وهو ما سيخلق عملية منظمة وبناءة لتتبع مدى احترام الدول لالتزاماتها وعدم خروجها عن المواثيق الدولية الداعية إلى احترام حقوق الإنسان. هذا وسيقطع المجلس مع الممارسات الحالية للجنة حقوق الإنسان بالابتعاد قدر الإمكان عن الأخطاء والمنزلقات التي وقعت فيها عبر تقديم مراجعة دورية لسجلات حقوق الإنسان الخاصة بجميع الأعضاء المئة وواحد وتسعين، بمن فيها سجلات القوى العظمى في العالم.
وبالإضافة إلى ذلك يضمن المقترح الجديد مشاركة قوية وفعالة للمنظمات الدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان في كافة المداولات التي سيجريها المجلس. كما سيحدث المجلس نظاماً خاصاً من المقررين وآليات بديلة لتقصي الحقائق، وهي ملامح إيجابية نصت عليها اللجنة إذ يتوقع الاحتفاظ بها والبناء عليها خدمة لحقوق الإنسان في العالم. وعلينا ألا ننسى أن مشروع القانون المطروح حالياً على أعضاء الأمم المتحدة يمثل نقلة نوعية في عمل لجنة حقوق الإنسان. لذا فإن أية عودة أخرى لفتح باب المفاوضات بعدما تم التوصل إلى مشروع المجلس ستوفر فرصة سانحة لمن يريد تعطيل المشروع وإعاقة عملية إقراره. وفي حال تم الرجوع إلى المفاوضات مرة أخرى فإن ذلك سيمهد الطريق لظهور اقتراحات تسير في عكس اتجاه المجلس مثل إعطاء بعض الأعضاء، التي تحركها دوافع سياسية، فرصة السيطرة والإشراف على اللجنة ونسف طبيعتها المستقلة التي تعكس أصوات الضحايا، أو أن يتم فرض قيود على المقررين والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام التي تفضح انتهاكات حقوق الإنسان، فضلاً عن خطر عرقلة تمرير توصيات حول الدول وإخضاعها للمصالح السياسية الضيقة.
وفي الأخير، ثمة هدف أسمى وراء إنشاء مجلس لحقوق الإنسان هو بناء قاعدة قوية لحماية حقوق الإنسان وتوفير المساعدة الضرورية لضحايا الانتهاكات وذلك في إطار المنظمة العالمية الوحيدة التي تضم جميع حكومات العالم. ولتحقيق ذلك الهدف اقترح "إليانسون" إنشاء مجلس لحقوق الإنسان يحظى بموافق