كان مقرراً لهذا العمود أن يكون تعليقاً على تنامي النزعة الانعزالية في أوساط الرأي العام الأميركي. وكان من نيتي أن أقول فيه إن أسرع الطرق وأقصرها لوصول أي مرشح رئاسي يائس إلى البيت الأبيض في أعقاب حربنا على العراق, هي أن يرتدي قناعاً لوجه مزدوج يجمع ما بين بوش و"الديمقراطيين" معاً. ولمن يود العمل بهذه الوصفة السحرية الفريدة, فما عليه إلا أن يشطب بجرة قلم واحدة, صفقة "موانئ دبي" حتى يأمن شر وانتقادات خصومه لما يقال من تفريط في أمننا القومي. أما إن أراد كسب القاعدة الانتخابية "الديمقراطية" العريضة لصالحه, فعليه أن يدعو إلى زيادة حجم الإنفاق الداخلي, والكف عن خوض المغامرات الخارجية باهظة التكلفة. وبالطريقة الانعزالية ذاتها, فإن أقصر الطرق لكسب عقول وقلوب الطبقة العاملة, هي الانقضاض بيد من حديد, على هجرة العمالة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة. وما السبيل إلى الفوز بأصوات ناخبي منطقة "ميدويست" إلا شن حملة شعواء على الصين ونبذ كل قيم التجارة الحرة. أما نبذك لفرنسا, فسيكون حتماً من باب الدعابة المثمرة والمربحة سياسياً وانتخابياً!
لكن وقبل أن أنهي كتابة العمود الصحفي الذي كنت قد بدأته على ذاك المنوال, إذا بالأدلة والحقائق الدامغة المتوفرة عن قياس اتجاهات الرأي العام الأميركي, تفاجئني بأنه ليس ثمة ما يدعم أوهام غلبة المنحى الانعزالي في أوساط الأميركيين, حتى ولا بعد كل المجازر وإراقة الدماء الأميركية التي حدثت في أعقاب حربنا على العراق! وهكذا فقد لحق الدمار التام بمخططي وتصوري للكتابة. فحين جلست إلى "روي تكسيرا", الخبير في مجال تحليل اتجاهات الرأي العام, وجدت أنه قد نظر ملياً إلى كافة البيانات والمعلومات المتوفرة في موقعه الإلكتروني عن قياسات الرأي العام الأميركي, منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية, وصولاً إلى ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. والذي رآه "تكسيرا" هو النقيض تماماً لما كان يعتقد أنه نمو ملحوظ باتجاه الانعزالية في أوساط الرأي العام الأميركي. والمقصود بذلك –كما يقول "تكسيرا"- هو ما تشير إليه قياسات الرأي العام المتتابعة, من عودة واضحة إلى المعدلات التي كانت عليها فيما بعد الحرب العالمية الثانية, على رغم الصعود المفاجئ الذي شهدته بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر مباشرة.
وكانت بداية الجزء الغالب من النزعة الانعزالية في أوساط الأميركيين, قد ارتبطت بالنتائج التي توصل إليها قياس للرأي أجرته "مؤسسة بيو" لقياسات الرأي العام العالمي, حيث كانت تعتقد نسبة 42 في المئة من الأميركيين أن على الولايات المتحدة أن تتولى حماية مصالحها وشؤونها الخارجية بمفردها, مسجلة بذلك صعوداً لهذا الاتجاه بمعدل 12 نقطة, عما كان عليه قبل ثلاث سنوات. لكن من رأي تكسيرا, أن نسبة الـ42 في المئة المذكورة هذه, إنما تعيد الرأي العام الأميركي مرة أخرى إلى ما كان عليه طوال فترة الرئيس السابق كلينتون, حيث ساند الأميركيون سياسات التدخل الأجنبي أكثر من أي وقت آخر مضى. وبينما بقيت معدلات تأييد التدخل هذه على ارتفاعها, لوحظ أيضاً تنامي الرأي العام المؤيد للعمل الدولي الجماعي في ذات الوقت.
إلى ذلك ظلت قضايا بعينها مثل المساعدات الإنسانية الخارجية والإرهاب الدولي, بين الأولويات القصوى لاهتمامات الرأي العام الأميركي. وفي الاتجاه ذاته تمضى قياسات الرأي العام, المتصلة بتأييد الأميركيين لسياسات العولمة الاقتصادية والتجارة الحرة. لذا فإن التفسير الذي قدمه "تكسيرا" لانخفاض نسبة تأييد الأميركيين للتدخل الأجنبي في أعقاب الحرب على العراق, ليس تعبيراً عن رغبة في الانعزالية والانكفاء إلى الداخل, بقدر ما هو تعبير عن رغبة في إحداث تحول في مضمون وأهداف النزعة العالمية الأميركية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"