عقارب الساعة بمحطة القطار ببغداد تشير إلى حوالى التاسعة صباحا، وهي الفترة التي تشهد عادة حركة دؤوبة ونشطة للمسافرين. ولكن الأوضاع مختلفة اليوم حيث يبدو أرصفة المحطة التي كانت تعج بالمسافرين خالية ومهجورة ومُقفرة.
الواقع أن قطارات العراق المشهورة تشكل مقياسا لدرجة التقدم المتحقق في مرحلة ما بعد الحرب، فمثلما تساعد حلقات الأشجار على فهم ماضي الغابات، تعكس محطات القطار في العراق آثار القوى والأحداث التي شهدتها هذه المنطقة لفترة طويلة من القرن الماضي. يقول سلام سلوم، مدير النقل والعمليات في شركة السكك الحديدية العراقية: "هذه واحدة من أقدم الشركات في العراق. ومثلما نهض العراق وسقط.. ونهض وسقط مرة أخرى، كذلك فعلت السكك الحديدية. وعلى غرار العراق كذلك فإنها ستنهض من جديد".
تعكس القطارات في العراق آثار الكولونيالية الأوروبية، وتشهد في الآن نفسه على الجهود العربية للتحرر من نيرها، إذ شهد نشاط السكك الحديدية التي أنشأها البريطانيون في أوائل القرن العشرين ازدهارا كبيرا، وكانت الملصقات الدعائية في العواصم الأوروبية عن قطار "سريع الشرق" تعلن بفخر "لندن– بغداد في ثمانية أيام: السلامة والسرعة والثمن المعقول". وقد ذهبت الروائية المشهورة آغاتا كريستي في هذه الرحلة على متن ذلك القطار سنة 1938، وبفضله استلهمت روايتها المشهورة "جريمة قتل على متن سريع الشرق".
وعلى مدى السبعينيات وأوائل الثمانينيات شكلت القطارات قطب الرحى في الحركة الصناعية التي شهدها العراق بفضل الطفرة النفطية، حيث كان يتم نقل الجزء الأكبر من إسمنت البلاد ونفطها وسمادها وحبوبها وحديدها على متن القطار. وكان العراق وقتئذ نموذجا يحتذى في العالم النامي، كما اكتسب العاملون في قطاع السكك الحديدية سمعة طيبة باعتبارهم مهندسين من الدرجة الأولى.
ولكن الواقع اليوم مختلف حيث المكيفات الهوائية على متن القطارات القليلة التي ما زالت تشتغل في العراق اليوم معطلة جميعها، إذ لم تكن عشر سنوات من الحرب مع إيران، وما أعقبها من عقوبات أممية استمرت زهاء عقد من الزمن، لتمر دون أن تترك آثارها على حالة القطارات وجودتها. ثم جاء الغزو الأميركي في 2003 وما تلاه من أعمال نهب وسرقة للقضاء على ما تبقى. وتقدر دراسة أجريت في مرحلة ما بعد الحرب أن أشغال الإصلاح والترميم اللازمة تتطلب ما لا يقل عن ملياري دولار.
وقد شكل إصلاح السكك الحديدية التي تعتبر ضرورية للانتعاش الاقتصادي أولوية أميركية وعراقية منذ اليوم الأول. ولكن بالرغم من تخصيص جزء من المساعدات المالية الأميركية لهذا الغرض، إلا أن أعمال الإصلاح والترميم لم تحقق أهدافها في ضوء تردي الأوضاع الأمنية واستشراء الفساد. ونتيجة لذلك، وعلى غرار الإنتاج الكهربائي في البلاد ومعالجة المياه وإنتاج النفط، فإن السكك الحديدية لا تشتغل اليوم سوى بـ3 في المئة فقط من قدراتها.
وحسب المتحدث باسم السكك الحديدية خميس الرباع، فقد أدت عمليات المتمردين في البلاد إلى توقيف معظم حركة القطارات بين العاصمة العراقية وجنوب البلاد وغربها. ورغم أن ثمن التذكرة لا يتعدى 750 دينارا عراقيا (نصف دولار)، وهو ما يجعل من القطار أرخص وسيلة نقل في البلاد حاليا، إلا أن القليلين فقط هم من يرغبون في ركوب مغامرة السفر عبر القطار. ونتيجة لذلك، تقوم ثلاثة قطارات مسافرين فقط في الأسبوع، تكاد تكون خالية من المسافرين، برحلة بغداد- الموصل ذهابا وإيابا. كما أن هناك قطارا إضافيا للمسافرين يقوم برحلات غير منتظمة بين إقليم بابل الواقع إلى الجنوب من بغداد والبصرة. أما قطارات الشحن التي تعتبر عادة العمود الفقري بالنسبة للسكك الحديدية فهي قليلة جدا.
هذا وتوجد السكك في حالة متردية إلى درجة أن القطارات تسافر بنصف سرعتها، أي 40 كيلومتراً في الساعة. وبالتالي فالرحلات التي من المفترض أن تستغرق 6 ساعات إلى الموصل، تستغرق في ظل هذه الظروف ما لا يقل عن 10 ساعات. وقد تسبب عجز الحكومة العراقية عن توفير مبلغ 3 ملايين دولار الذي تعهدت به في تأخير الاستفادة من شطر من السكك الحديدية (25 مليون دولار من المساعدات الأميركية) أوشك على الانتهاء جنوب البلاد.
أما في غرب العراق فالوضع ليس أفضل، حيث ألحقت قوات المارينز الأميركية بالسكك الحديدية أضرارا تقدر بثلاثة ملايين دولار أثناء حصارها للفلوجة في 2004، وفي أقصى الغرب حولوا محطة رئيسية للقطار إلى قاعدة عسكرية أميركية. كما أن عملية انتقاء المقاولين تجري بطريقة عشوائية، حيث تعاقدت سلطة التحالف المؤقت الذي تقوده الولايات المتحدة مع أشخاص غير مناسبين أو حتى مشبوهين في ذمتهم لتوفير قطع الغيار للقاطرات.
ولكن وعلى غرار حال معظم جهود إعادة الإعمار هنا في البلاد، فإن العقبة الأولى هي قلة الأمن، حيث باتت السكك الحديدية تشكل الهدف الأول للمتمردين الذين قتلوا ثلاثة مديرين كبار وخمسة مديرين متوسطين وأكثر من عشرين عاملا. ويذكر في هذا السياق أن مشروعا طموحا يرمي إلى تجديد محطات القطار في