استعانت معظم المؤسسات والدوائر الحكومية التي تقدم خدمات جماهيرية بكل ما هو حديث من وسائل التكنولوجيا وأضفت لمسات جمالية على أدائها في السنوات الأخيرة، وهذا هو ظاهر الأمور، أما حقيقة الأمر فيمكن أن يلمسها كل من يتعامل مع الكثير من موظفي هذه المؤسسات، فالمتعاملون ينتظرون وفق تراتبية محددة، وفي أماكن انتظار لائقة، ولكن الملاحظ أن خطوات التطوير لم تمتد إلى نطاق مراقبة الأداء الوظيفي خلال ساعات العمل، أو على الأقل وضع معايير أو آليات فاعلة وأنظمة رقابة حكومية تتضمن معايير عامة محددة للجودة والكفاءة في الأداء، على أن تضطلع كل جهة بتحديد المعايير التفصيلية لجودة الخدمات الجماهيرية وفقا لطبيعة عملها وبما يضمن في النهاية الارتقاء بمعدلات الأداء الوظيفي، وبحيث يمكن من خلال خطوة كهذه اكتشاف "البطالة المقنعة" وأوجه القصور في الأداء ومحاولات تطبيع العلاقات مع التكنولوجيا وتسخيرها لمصلحة هدر الوقت.
اللافت أن معظم الجهات التي تقدم خدمات جماهيرية قد زودت أماكن تقديم الخدمة بـ "كاونترات" تتناسب مع حجم الضغوط المتوقعة للمراجعين، ولكن من النادر أن تجد هذه الكاونترات كاملة العدد، ومن الغريب أيضا أن تكتشف أن هؤلاء الموظفين موجودون بالفعل وأن تناوبهم على الجلوس لتلقي معاملات الجمهور يحدث وفق نوايا مبيتة ولأسباب مجهولة لا علاقة لها مطلقا بتكليفات طارئة أو أعمال أخرى، بل تتم غالبا وفق إشارات متبادلة بين الموظفين أنفسهم، فهذا يتحدث هاتفيا، وذاك ينهي مصلحة خاصة، وثالث ينشغل مع زميل رابع في حوار جانبي، وهكذا دواليك تمضي الأمور والمتعاملون مضطرون إلى الانتظار.
الثابت أن هدر الوقت وتعثر الأداء في قطاعات الخدمة الجماهيرية هو هدر للمال العام، لأن المراجع هو في أغلب الأحوال موظف يستأذن غالبا من دوامه الرسمي ثم يفاجأ بان عليه الانتظار ساعات وساعات لإنهاء معاملة صغيرة وعمله الأساسي هو بالنهاية من يضطر إلى تحمل فاتورة هذه الساعات المهدرة. والثابت أيضا أننا لو قمنا بعملية حسابية عشوائية بسيطة بقسمة عدد المعاملات التي يتم إنهاؤها على العدد الإجمالي لموظفي خدمة الجمهور في أي قطاع، ربما نكتشف أن الوقت المخصص لإنهاء المعاملة يتجاوز الحدود بدرجة ترشحه للدخول إلى موسوعة الأرقام القياسية، لأن العدد الفعلي للقائمين على تلقي المعاملات لا يتجاوز اثنين أو ثلاثة موظفين في معظم ساعات الدوام بسبب سياسة "تبادل الأدوار".
لا يكفي أن تخصص الجهات الحكومية "كاونترات" كافية وأماكن انتظار مناسبة، بل الأهم من ذلك مراقبة أداء الموظفين من خلال معايير جودة دقيقة وسياسات ثواب وعقاب ملائمة تضمن تحسين نوعية الخدمات الجماهيرية، ولذا فإن وزارة التطوير الحكومي الجديدة تتصدى بالفعل لمهمة صعبة وحيوية وبالغة التأثير لاستئصال البيروقراطية ومواجهة المحاولات التي تتم بشكل منهجي في كثير من الأحيان لتطويع التكنولوجيا لخدمة الروتين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية