ظل جنوب السودان وعلاقته بشماله حتى قبل أن تنال البلاد استقلالها من الحكم الأجنبي مصدر المحنة الوطنية وبؤرة الصراع التي قعدت بالسودان وحالت دون تطوره واللحاق بالبلدان الأفريقية التي نالت استقلالها بعد أن تحقق للسودان ببضع سنوات.
إن الخلاف تأسس أصلاً في أن الجنوب يضم قبائل ومجموعات من أصول غير عربية وأن التبشير المسيحي بين أهله كان هو الأسبق والأرسخ في حين ظل السودان الشمالي يدين بالإسلام ويرتكز حضارة ولغة وثقافة على العروبة الممزوجة بقدر من الحضارة النوبية وغيرها من حضارات المنطقة القديمة.
هذا الوضع جذب اهتماماً ملحوظاً من القوى الخارجية وعلى رأسها القوى الغربية ممثلة في الكنائس وفي نشاط عدد من بلدان أوروبا وأميركا الشمالية ورغم تواصل هذا الجذب وهذا الاهتمام عبر عقود من الزمان، فإن الملاحظ أن بلدان الكتلة العربية لم تبدِ أي قدر مماثل أو مقارب لما تقوم به بلدان الغرب نحو هذا الجزء من السودان، حدث هذا رغم أن السودان ظل عضواً نشطاً في جامعة الدول العربية منذ مولده كدولة ذات سيادة، وهنا يصح القول بأن مصر أبدت قدراً من الالتفات لما يجري في الجنوب حرصاً منها على ضمان انسياب مياه النيل التي تأتي عبر أرض الجنوب، وكان كذلك للقاهرة قدر من النشاط في توفير بعثات دراسية لأعداد من الجنوبيين تأهلوا في معاهد مصر وجامعاتها.
ومع تحقيق السلام بين الشمال والجنوب وتوافق الطرفين على إقامة نظام حكم مشترك فإن المتوقع والمرتقب كان أن يرتقي اهتمام الدول العربية أكثر بالجنوب لاسيما وهو أرض بكر تبشر بخير كثير إذا وجدت الاستثمار المناسب. لقد انقضى الآن أكثر من عام على تحقيق السلام وإنهاء الحرب ورغم تلك التوقعات فإن التفات العالم العربي للجنوب وما يجري فيه ما زال محدوداً، بل لعله ما زال معدوماً بالنسبة لبعض الدول العربية التي تملك وسائل التدخل والمشاركة البناءة.
ورغم هذه الحقائق فإن الأيام الأخيرة شهدت قدراً من التحول والنشاط في سياسات بعض الدول العربية. من ذلك ما أعلن هذا الأسبوع عن أن جمهورية مصر العربية ستشرع فوراً في تنفيذ مشروعات لإمداد بعض المدن الكبرى في الجنوب بالطاقة الكهربائية وأعلن كذلك أن الاعتمادات المالية اللازمة لذلك والتي قدرت مبدئيا بنحو ثلاثين مليون دولار قد وفرت ولم يبقَ إلاّ التنفيذ. أما الدولة العربية الأخرى التي أبدت اهتماماً بالجنوب، فإنها دولة الكويت التي أعلنت هذا الأسبوع كذلك أنها تعاقدت مع حكومة الجنوب على مشروعات تنموية منها إنشاء فندق (خمس نجوم) في مدينة جوبا العاصمة التجارية للجنوب، إضافة لهذا ستقوم الكويت بتأهيل ميناء جوبا النهري وإقامة مشروع لصيد الأسماك في منطقة "تركاكا".
الحضور العربي في السودان الجنوبي ينبغي ألا يقف عند الاستثمار الاقتصادي وحده رغم أهميته القصوى، إذ لابد أن يتسع ذلك الحضور ليكون ثقافياً وسياسياً واجتماعياً ويشمل كل جوانب الحياة هناك، وكلما كان الوجود الغربي في الجنوب كثيفاً ومخططاً له تخطيطاً علمياً، وكلما أسندت قيادته لكوادر تدرك الأهداف السامية من ورائه، فإن ذلك سيسهم بصورة أو بأخرى في التقارب بين الشمال العربي وذلك الجزء غير العربي من السودان, وهذا الجهد المنظم والمتواصل من شأنه أن يصب في خانة وحدة السودان عندما يحين الاستفتاء على تقرير مصير الجنوبيين في الوحدة مع الشمال أو الانفصال عنه في نهاية الفترة الانتقالية بعد خمس سنوات.