عندما كنت مراسلاً صحفياً في كل من قارتي آسيا وإفريقيا, كان أهم شيء في أمتعتي الشخصية التي تلازمني–بعد ماكينة الطباعة الصغيرة المتحركة- هو جهاز راديو ترانزيستور صغير لا يفارقني مطلقاً. وكان ذلك الراديو حلقة الصلة الوحيدة بيني وبقية أنحاء العالم في تلك المناطق النائية من الكرة الأرضية. وعلى رغم آلاف الكيلومترات والأميال التي تفصل بيني ووطني الأم, فقد كنت أدير مفتاح الراديو في كل ليلة بانتظام, فأتنقل بين مختلف المحطات الإذاعية العالمية. وحين يكون الإرسال جيداً بما يكفي, كنت أتمكن من سماع "صوت أميركا", الذي أطيل السماع إليه في واقع الأمر, ربما كنوع من الحنين الجارف إلى الوطن, ومحاولة الارتباط به بأي شكل من الأشكال, عدا عن استخدامي له من الناحية المهنية والصحفية البحتة. المهم أنني كنت أستقى أكثر معلوماتي موثوقية من إذاعة "صوت أميركا" لكي أتابع ما يدور في أميركا وفي مختلف أنحاء العالم الخارجي وبلدانه ودوله.
ثم مرت الأيام والسنوات لأجد نفسي مديراً عاماً لإذاعة "صوت أميركا" التي لم يزدد إعجابي وافتتاني بها إلا بفضل كوكبة من الصحفيين الشباب الموهوبين, وبفضل جهود زملائي العاملين في القسم الخارجي, إلى جانب عدد كبير من الإذاعيين والصحفيين القادمين من مختلف الدول والبلدان, ممن يكرسون جهودهم ومواهبهم وطاقاتهم الصحفية الخلاقة, لإذاعة "صوت أميركا" بمختلف الألسن واللغات والثقافات الممثلة لشعوب العالم بأسره. وعلى الرغم من أن الإذاعة لم تكن لتقصر خدماتها وبثها الإذاعي على الجمهور المحلي الأميركي وحده, فإن "سكوت ريستون", زميلي الصحفي اللامع في صحيفة "نيويورك تايمز", قال لي إنه دأب على سماعها كل ليلة, مستخدماً جهازاً يعمل بترددات الموجة القصيرة.
واليوم فقد ولى زمن الآلة الكاتبة مع ثورة الـ"لابتوب" ومختلف أنواع أجهزة الكمبيوتر الحديثة. وفي الوقت ذاته, هجر الكثير من الناس جهاز الراديو التقليدي الذي ينقل البرامج والأخبار سماعياً, مؤثرين عليه المشاهدة الخبرية الحية عبر الفضائيات والأقمار الاصطناعية المرتبطة بأجهزة التلفزيون الحديثة الملونة. وتراجعت بسبب الثورة المعلوماتية ذاتها, مكانة الراديو كثيراً مع تقنية الإنترنت والإبحار السهل والسريع في الشبكة الدولية, بحثاً عن كل شيء تقريباً مما يحتاجه الإنسان.
وبما أن هذا هو واقع المزاج والاتجاه العام تقريباً, فلابد لنا من أن نتساءل عن مدى حاجة الناس هنا لمتابعة الأخبار والبرامج الإذاعية عبر ترددات الموجة القصيرة؟ وما إذا كانت إذاعة "صوت أميركا" وغيرها من المحطات الإذاعية الحكومية الأخرى, قد تخطت زمانها وعصرها, فأصبح لازماً إعادة النظر في مدى جدواها وضرورتها؟ والملاحظ أن العصر الذهبي لهذه الأجهزة التقليدية, كان إبان حقبة الحرب الباردة, التي ولى زمانها هي الأخرى منذ عدة سنوات مضت!
وفي الإجابة على هذه الأسئلة الضرورية مجتمعة, لنذكر أننا نخوض حرباً ضد الإرهاب الدولي منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001, وقد سبق أن حذر بوش من أنها ستكون حرباً ماراثونية طويلة الأمد. وهي لاشك حرب تتطلب قوة السلاح والبندقية, غير أنها تتطلب في الوقت ذاته سلاح الكلمة وقوتها. وبما أن هذه الحرب تدور بالدرجة الأولى في بلاد الإسلام والمسلمين, فإن من الأهمية القول إنه وأياً تكن القناة التي تبث عبرها الأخبار والمعلومات والأفكار –سواء كانت عبر جهاز التلفزيون والأقمار الاصطناعية, أم عبر الصحف, أم الراديو وموجات إف. إم الإذاعية- فإن من المهم أن نعلم أن الرسالة الصحفية موجهة إلى شعوب وجمهور تلك المجتمعات بالدرجة الأولى. وإنه لمن المؤسف القول إن بعض خدمات هذه القنوات والشبكات العاملة بعدة لغات عالمية أخرى, ربما تنشأ الحاجة إلى خفضها, حتى نتمكن من زيادة وتكثيف البث باللغتين العربية والفارسية على وجه الخصوص.
والمؤسف أيضاً أن تكون اللغة الإنجليزية نفسها, إحدى ضحايا إعادة النظر هذه, على الرغم من كونها لغة البث الرئيسية لمناطق وأجزاء واسعة جداً من الكرة الأرضية عدا إفريقيا. ومن الأسف أن نضطر إلى خفض خدمتها, على الرغم من كونها اللغة المفضلة للقيادات والنخب السياسية, حتى في البلدان غير الناطقة بالإنجليزية. ومن جانبها تستهدف إذاعة "صوت أميركا" هذه الفئات والشرائح الخاصة من مستمعيها بالذات.
كما تشمل قائمة اللغات التي سيتم خفض خدماتها, الكرواتية والتركية والتايلندية واليونانية والجورجية. أما خدمات البث التي ستتواصل -لكن بعد إحالتها إلى البث التلفزيوني بدلاً من الإذاعي- فتشمل كلاً من البرامج المبثوثة باللغات الألبانية والبوسنية والمقدونية والصربية والروسية والهندية.
إلى ذلك يذكر أن الميزانية العامة المقترحة للبث الأميركي العالمي خلال العام المقبل 2007, هي 671.9 مليون دولار, أي بما يزيد بحوالي 4.3 في المئة على ميزانية الخدمة ذاتها للعام الجاري 2006. وهي عموماً تبدو ضئيلة للغاية بالمقارنة إلى ما ينفق على الأسلحة المستخدمة في الح