يحيط العالم الغربي المحرقة النازية ليهود أوروبا بنوع من أنواع القداسة حتى يجعل منها شيئاً فريداً، لا نظير له، وكأن الضحية الوحيدة للجرم النازي كانت اليهود، وكأن الغجر والمعوقين والبولنديين، بل وبعض العرب المسلمين، لم يكونوا هم أيضاً من ضحايا المحرقة النازية، وكأن الغرب لم يرتكب عشرات الجرائم الإبادية الأخرى ابتداء بالإبادة الأميركية للسكان الأصليين في أميركا الشمالية والهنود الحمر، وكأنه لم يبدْ ملايين الأفارقة السود أثناء عملية اختطاف تسعة ملايين أفريقي ونقلهم إلى الأميركتين ليعملوا كعبيد، وكأن عمليات الإبادة لم تتال بعد ذلك في الكونغو وفيتنام والشيشان. ويوجد الآن تخصص جديد في الغرب يسمى victimology أي علم دراسة الضحية، ويذهب المتخصصون في هذا الحقل إلى أن من يلعب دور الضحية يحصل على قدر كبير من التعاطف. ولذا تحاول الدعاية الصهيونية احتكار دور الضحية لليهود. ولكن يلاحظ أن الخطاب السياسي في الغرب وفي إسرائيل بدأ يرفض التابو (التحريم) الذي يمنع تشبيه الإبادة النازية ليهود الغرب بأحداث مماثلة في التاريخ الماضي والوقت الحاضر. فقد تجرأ عدة متحدثين غربيين (من بينهم يهود) على تشبيه ما يحدث للفلسطينيين على يد الإسرائيليين بما حدث لليهود في أوروبا على يد النازيين. فعلى سبيل المثال، صرح الكاتب الإسرائيلي "يهوشاوا" بأنه يفهم الآن سبب جهل الألمان بما حدث لليهود بعد أن رأى الإسرائيليين يرفضون معرفة ما يحدث للفلسطينيين. ويشير اليهود "السفارديم" الشرقيون إلى اليهود الغربيين بأنهم "إشكي نازي"، وهو نوع من التلاعب بالألفاظ يشير إلى أن ما كان محرماً أصبح مباحاً. ووصف البروفيسور "لايبوفيتز" سياسة إسرائيل في لبنان بأنها نازية يهودية، بالإنجليزية: جوديو/ نازي Judeo-Nazi. بل إنه حينما أسس متحف للهولوكوست في لوس أنجلوس اضطروا لأن يشير المتحف لعمليات إبادية أخرى مثل ما حدث في البوسنة. وقد فعلوا ذلك بعد أن تعالت بعض أصوات الاحتجاج على متحف "الهولوكوست" في واشنطن الذي جعل من المحرقة النازية ظاهرة ليس لها نظير.
وقد أثيرت مؤخراً قضية "الهولوكوست"، وهل هي حدثت بالفعل أم لا؟ وهل رقم ستة ملايين مبالغ فيه أم لا؟ ومهما كانت طبيعة الإجابة على هذه الأسئلة، نفياً كانت أم إيجاباً، يجب علينا أن نؤكد أن "الهولوكوست" لا علاقة له بالصراع العربي- الإسرائيلي، فالمشروع الصهيوني لاحتلال فلسطين وتوطين كتلة بشرية غربية فيها وطرد سكانها الأصليين قد تبلور في منتصف القرن التاسع عشر على يد لورد "شافتسبري" وسير "لورانس أوليفانت"، وكلاهما غير يهودي، بل ومعادٍ للسامية. وقد عُقد المؤتمر الصهيوني في أواخر القرن التاسع عشر، كما صدر وعد بلفور عام 1917، أي أن الفكرة الصهيونية قد تبلورت، وبدأت إجراءات وضعها موضع التنفيذ قبل استيلاء النازيين على الحكم بعشرات السنين. ولكن العرب وجدوا أنفسهم طرفًا في الحوار بخصوص الهولوكوست نظراً لأن الغرب أقحم الجريمة النازية داخل التاريخ العربي حتى يُبرِّر غرس الدولة الصهيونية الاستيطانية في وسط الوطن العربي، زاعماً أنه فعل ذلك تعويضاً لليهود عما لحق بهم من أذى داخل التشكيل الحضاري الغربي. وهذه أكذوبة واضحة، فلو كان الدافع وراء المشروع الصهيوني هو بالفعل الإحساس بالذنب، لاستقطع العالم الغربي قطعة من ألمانيا وأسس لليهود دولة فيها، أو لأرسل قوات دولية لتتأكد من أن يهود أوروبا سيحصلون على حقوقهم الدينية والمدنية. فالتكفير عن جريمة ما لا يتم عن طريق ارتكاب جريمة أخرى، أي احتلال فلسطين وطرد شعبها، ولا يمكن محو أثر معسكرات الاعتقال والمجازر النازية عن طريق مخيمات اللاجئين الفلسطينيين والمستوطنات الاستعمارية في الضفة الغربية والمجازر في دير ياسين وكفر قاسم وجنين، وعن طريق دعم الكيان الصهيوني العنصري من خلال التعويضات!
وتحاول الدعاية الصهيونية جاهدة أن تصوِّر المقاومة العربية للغزو الصهيوني لفلسطين وكأنها كانت دعماً مباشراً أو غير مباشر للإبادة النازية، لأنها حالت في بعض الأحيان دون دخول المهاجرين اليهود لفلسطين. ومثل هذه الحجة هي الأخرى لا أساس لها من الصحة، فالمقاومة العربية لم تكن ضد مهاجرين يبحثون عن المأوى وإنما كانت ضد مستوطنين جاءوا لاغتصاب الأرض وطرد أصحابها، تحت رعاية العالم الغربي، وبدعم من حكومة الانتداب البريطانية، فالغرب نفسه أوصد أبوابه دون المهاجرين اليهود.
كما تحاول الدعاية الصهيونية أن تبين أن بعض الساسة العرب أظهروا تعاطفاً مع النظام النازي. وهذه أكذوبة أخرى، فمعظم الحكومات العربية وقفت مع الحلفاء (فمعظم بلدان العالم العربي على أية حال كانت واقعة تحت شكل من أشكال الهيمنة الغربية)، كما أن النظرية النازية العرْقية كانت تضع العرب والمسلمين في مصاف اليهود. وهؤلاء الساسة العرب (وبعض القطاعات الشعبية) ممن أظهروا التعاطف مع النازيين فعلوا ذلك لا كُرهاً في اليهود أو حباً في النازيين، وإنما تعبيراً عن عدائهم للاسـعمار الإنجليزي والاستيط