احتل العراق بموقعه في الجغرافيا، وفي الاستراتيجيات الدولية الكبرى، وبسبب بنيته الاقتصادية، مكانة بارزة عبر التاريخ، وقد ازدادت أهميته في العصر الحديث بفعل عوامل على رأسها تركيبته المذهبية وثروته النفطية. هذه الأهمية وتلك المكانة هما ما يشرحه كتاب "العراق: دراسات في السياسة والاقتصاد"، من خلال التطرق المعمق لثلاث قضايا رئيسية أثرت وما تزال تؤثر في العراق؛ وذلك في ثلاث دراسات أعدها ثلاثة باحثين عراقيين، حول "الموقع الجغرافي للعراق وأهميته الاستراتيجية"، والسياسة الأميركية تجاه العراق، و"البناء الاقتصادي العراقي".
في الدراسة الأولى حاول سيار الجميل بيان الأهمية الاستراتيجية للعراق انطلاقا من موقعه الجغرافي المركزي، فضلا عن مركزيته الدينية والعقائدية. فجغرافية العراق هي واحد من أهم العوامل المساعدة في تشكيل تواريخه الحيوية سياسياً وحضارياً، إذ يقع في قلب العالم القديم المتكون من آسيا وأوروبا وأفريقيا. كما كانت جغرافية العراق الطبيعية عاملاً في تشكيل جغرافياته الاستراتيجية والسياسية والتاريخية والبشرية على امتداد التاريخ.
وقد أصبح العراق منذ القدم بفضل موقعه الجيوستراتيجي معبراً نهرياً وبرياً وبحرياً بين القارات القديمة. كما شكّلت مركزية موقعه بالنسبة للشرق الأوسط أهمية بالغة في حسابات المجال الحيوي لتلك المنطقة المهمة في العالم الحديث باعتباره وسط بحار العالم المركزية. فضلاً عن كونه مفتاح الاتصال بين البلدان العربية وأكبر قوتين إقليميتين في الشرق الأوسط: تركيا وإيران، إذ يشترك معهما في أطول حدود. ناهيك عن كونه المركزية الدينية والعقائدية بوجود العتبات الشيعية المقدسة والحوزة العلمية للشيعة الاثني عشرية.
وتبرز الدراسة أهم الخصائص التي تميز بها العراق من خلال موقعه الاستراتيجي؛ إذ يتصف بكونه من البلدان النهرية النادرة التي تتوزعها السهول والأحراش والبوادي والغابات، كما يجمع بين المسلك المائي والمسلكين البريين العموديين اللذين يربطان الشمال بالوسط والجنوب. وانطلاقا من هذا الموقع، فإن العراق، كما يقول كاتب الدراسة، يمتلك ثروات اقتصادية وبشرية هائلة، وله نسيج اجتماعي وثقافي متنوع، ويتميز بتجربة مركزية شرق أوسطية تاريخية ناجحة في الترابط الإقليمي، بقدر ما تشكل بغداد مركزية مؤسساتية إقليمية مدنية رائدة ومؤثرة.
فهل يمكن إذن أن نستنتج من خصوصية الموقع الجغرافي لبلاد الرافدين وأهميته الجيوستراتيجية، نوعية العالم الذي أرادته القوى العظمى الأميركية حين أقدمت على غزو العراق؟
في الدراسة الثانية يبحث عمرو ثابت سياسة الولايات المتحدة تجاه العراق، لجهة وسائلها وأهدافها؛ منطلقا من أن السيطرة ليست مجرد مسألة غلبة وإخضاع، بل قد تتعلق بالحكم عن طريق مزيج متوازن من عنصري السيطرة والقبول. فوسيلة السيطرة هي القوة العسكرية، إضافة إلى القهر السياسي والاقتصادي، بينما تتمثل وسيلة القبول في الأيديولوجية والثقافة والتعليم. أما الأيديولوجية التي تشمل فرض التفوق الثقافي فتسهم في تقليل تكاليف القسر والإكراه. وكما أشار بريجنسكي فإن "التفوق الثقافي الذي يتم فرضه بنجاح وقبوله بهدوء" يؤدي إلى "تقليل الحاجة إلى الاعتماد على قوات عسكرية ضخمة للحفاظ على سلطة المركز الاستعماري". وبهذا المعنى تعتبر الدراسة أن الإسلام، بوصفه نظام قيم مقابلا أو مضادّاً، يشكل عائقاً ضخماً وطبيعياً أمام خطط الهيمنة تلك، إذ من شأنه أن يرفع كثيرا من تكاليف السيطرة كما يحدّ من نطاق القبول، وهذا يمثل سبباً رئيسياً وراء المطالب الأميركية بتغيير المناهج التعليمية في الدول العربية، وما نسمعه من مطالبات بتغيير الخطاب الديني.
من هنا يرى عمرو ثابت أن غزو العراق والحرب على الإرهاب هما وسيلتان لتحقيق غرض أكبر، وليستا غاية بذاتيهما، إلا أن الخلط بين الوسائل والغايات هو أحد أساليب الخداع الاستراتيجي، تماما كما قدم استغلال أسلحة الدمار الشامل بوصفها مبررا لغزو العراق، مثالاً على هذا الخداع الاستراتيجي النافع.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالوجود الأميركي في العراق وعموم الشرق الأوسط، فإن ذلك الوجود سيبقى عن طريق الحيلة أيضا، إذ سيتحول الأميركيون من قوة احتلال إلى قوة مدعوة من قبل الحكومة العراقية!
ولتحقيق ذلك الغرض، فالولايات المتحدة، كما يرى كاتب الدراسة، ستحتاج إلى عراق موحد وليس إلى دولة مجزأة، لاسيما إذا كان يراد للعراق في نهاية الأمر أن يقوى ثانية ليصبح قوة إقليمية موازنة لإيران. وفي جميع الأحوال سيتم الإبقاء على الفيدرالية الكردية كبطاقة للعب عندما يكون الوقت مواتياً. ولتقليل التكاليف وتفادي حدوث ظروف ومخاطر غير متوقعة، ستسعى الولايات المتحدة إلى تمويل مشروعها الإمبريالي ذاتياً من خلال روافدها ومحمياتها، اعتمادا على استثمار المخاوف والشكوك والمنافسات الحزبية والطائفية والمصالح المتصارعة والمطامع الإقليمية والتهديدات... أو حتى مجرد عدم الكفاءة والأهلية.
وحول أسس البناء الاقتصادي العراقي ومق