"عمل طافح بالدجل المؤذي" هذه هي العبارة التي اختارها روبرت إروين في كتابه الذي نعرضه اليوم "الإغراء من أجل المعرفة: المستشرقون وأعداؤهم"، ليصف مفكرا طبقت شهرته الآفاق بعدما أصبح كتابه مرجعا لا غنى عنه لدراسة الاستشراق، وتعبيرا صادقا عن تناقضاته. لاشك أنكم أدركتم من المعني بعبارة روبرت إروين إنه المفكر إدوارد سعيد الذي خصص له مؤلفنا كتابا كاملا للرد على مقولاته المتعلقة بالاستشراق التي أضحت بعد نشر كتابه إحدى الثيمات الأساسية في الدراسات الثقافية. لكن بالنسبة لرجل مثل إدوارد سعيد تعرض طوال حياته الأكاديمية الصاخبة لحالات كثيرة من التضييق وصلت حد نسف مكتبه في نيويورك من قبل الصهاينة، ومنع كتبه من التداول في قطاع غزة والضفة الغربية... لا يشكل هجوم المؤلف على أطروحاته سوى نزهة عابرة. والواقع أن ما يلفت النظر في كتاب "الإغراء من أجل المعرفة" هو خلوه من مشاعر الكراهية المجانية وتمسكه بقواعد الذوق العام التي تميز عادة المثقفين الإنجليز من الطبقة الوسطى، وتنخرط في منظومة سلوك صارمة تستنكر التطاول أو التجريح. لذا ابتعد إروين عن التعليقات الشخصية ونأى بنفسه عن الدخول في لعبة التشهير كما حاول بعض منتقدي إدوارد سعيد من قبل، بل بالعكس من ذلك كان يغدق عليه المديح كلما توافق معه حول قضايا معينة مثل تغطية وسائل الإعلام الأميركية المنحازة لإسرائيل، ونبذه القاطع للعنف في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.
وهو في تعامله المؤدب مع إدوارد سعيد والتقائه معه في بعض القضايا، يختلف عن بعض المستشرقين الذين لا يخفون انحيازهم ضد العالم الإسلامي مثل برنارد لويس الذي كتب عن تدمير مركز التجارة العالمي بأنه كان أسوأ عمل في التاريخ البشري، وكأنه بهذا التعليق يريد أن يقول إن جرائم ستالين وهتلر مثلا، دون الحديث عن مأساة هيروشيما، لا تضاهي في فظاعتها أحداث 11 سبتمبر! ومع ذلك يوجه المؤلف سهام النقد إلى إدوار سعيد. فروبرت إيروين هو من القلائل الذين مازالوا يفاخرون بتسمية أنفسهم مستشرقين في ظل عالم الكمبيوتر الذي يعتبر الحديث عن "الشرق" وتناوله فكريا جزءا من ماض قديم. وما من شك في أن المؤلف يشير فعلا إلى بعض الزلات التي وقع فيها إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق"، إلا أن نقده كان سيصبح أكثر إقناعا لو انتبه هو نفسه إلى المعلومات التي جاءت في كتابه وحرص على دقتها، خصوصا ما كتبه مثلا عن غرامشي ومدرسة ما بعد البنيوية، حيث كان بإمكانه تفادي المغالطات الكثيرة التي ألصقها بهما. ولكن لا يبدو أن ذلك يهم كثيرا ما دام كل من إدوارد سعيد وروبرت إروين يتحدثان في اتجاهين متباينين. فبالنسبة لسعيد يحيل الاستشراق إلى خطاب ثقافي متكامل دأب على تصوير الشرق على أنه غارق في مجموعة من المظاهر السلبية التي تسمه، بل وتميزه عن الآخر، مثل الكسل والخداع والغموض وغيرها. وهنا يتحدث إدوارد سعيد عن شكل من أشكال الأيديولوجية التي سادت في الغرب على امتداد تاريخه. وفي المقابل يقارب إروين الاستشراق من برجه العاجي على أنه مجرد رواية شخصية تختلف من دارس إلى آخر وبذلك ينسف مقولة الاستشراق كنسق أو كنظرية متكاملة تفسر نظرة الغرب التاريخية إلى الشرق، معتبرا أن التشكيلات الأيديولوجية تتعدد بتعدد المستشرقين أنفسهم، وهو ما يعني انتفاء النظرة النمطية التي حاول إدوارد سعيد إثبات وجودها في الأعمال الأدبية والفكرية التي تناولت الشرق.
وفي الوقت الذي أبدى فيه المؤلف رفضه المبدئي لوجود ظاهرة الاستشراق مفضلا الحديث عن مقاربات فردية لا يجمعها خط ناظم يفسر تعاطي الغرب مع الشرق، فإنه كان يمهد لما هو أكثر من ذلك في رفضه لأطروحات إدوارد سعيد. وبالتحديد رفض المؤلف الإقرار بالتواطؤ الذي أكده إدوارد سعيد بين الاستشراق والاستعمار والدور الذي لعبه المستشرقون في التمهيد لتفكيك الشرق ثقافيا قبل إرسال جحافل الجيوش لغزو أراضيه وإخضاعه للاستعمار. ومع أن المؤلف يستغرق طويلا في تفاصيل المستشرقين إلى حد نسيان الغرض الأساسي من تأليف الكتاب، والمتمثل في تفنيد أطروحة إدوارد سعيد حول الاستشراق، إلا أن ما يبدو عدم اهتمام أو تيها في لجة التفاصيل إنما يراد به إظهار عدم اهتمام المستشرقين أنفسهم بالتهجم على الشرق والتركيز على الطبيعة الأكاديمية الصرفة لدراساتهم. وقد نجح إروين من خلال دراسته لأعمال المستشرقين في إبراز العلاقة المتوترة بين الاستشراق كمدرسة فكرية والدين، مشيرا إلى أن العديد من رجال الدين الغربيين الذين انكبوا على دراسة القرآن إنما فعلوا ذلك بغرض انتقاده، وهو ما يؤكد أن مرامي الاستشراق ليست منفصلة تماما عن السياسة وإلا لما انصرف باحث يهودي طيلة سبع سنوات إلى دراسة خلفية إدوارد سعيد لمعرفة سبب دفاعه المستميت عن فلسطين.
ويعتقد إروين بأن الطريقة التي تعامل بها إدوارد سعيد مع المشاكل السياسية التي يصطخب بها الشرق الأوسط كانت "ذات طبيعة نصية"، بمعنى أنه تم التعاطي معها كنصوص يمكن حل إشكالاتها إذا ما توفرت مهارات القراءة النقدية. لكن