يضم هذا الكتاب بين دفتيه سلسلة من اللقاءات الصحفية التي أجرتها المؤلفة مارتا هارنكر مع الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز, إضافة إلى الجهد التحليلي لعدد من القضايا والجوانب المتعلقة بالثورة الفنزويلية؛ بداياتها, منطلقاتها الفكرية والسياسية, وتطوراتها ورؤاها المستقبلية... وكانت اللقاءات الصحفية مع الرئيس الفنزويلي قد بدأت في لحظة تاريخية وسياسية مهمة, أعقبت المحاولة الانقلابية الفاشلة التي تعرض لها نظام شافيز في أبريل عام 2002. وكما هو معروف, فقد أيدت واشنطن ذلك الانقلاب على الأقل, إن لم تتأكد الاتهامات التي تشير إلى ضلوعها في التخطيط له وتنفيذه. ولهذا الدعم الأميركي أهمية خاصة في الرؤية الفكرية المقارنة التي اعتمد عليها الكتاب في مناقشته لمختلف القضايا المثارة من زاوية النظر إلى الثورة الفنزويلية وتقييمها. ولكن المعلوم أيضاً أن تلك المحاولة الانقلابية قد انتهت إلى عكس ما أرادت واشنطن, أي عودة شافيز إلى منصبه وسط هدير من المواكب الشعبية والاحتجاجات الجماهيرية العامة المنددة بالانقلاب والمؤيدة للثائر الفنزويلي.
تلك كانت مجرد لحظة أو منعطف من منعطفات الثورة الفنزويلية, ولذا فهي لم تحتل مساحة كبيرة من الكتاب, بقدر ما انصب الاهتمام على الإضاءات التي قدمها شافيز عن الملامح العامة لطبيعة حركة التغيير السياسي في بلاده وفي منطقة أميركا اللاتينية بأسرها, وعن تقاطعاتها وتبايناتها مع نمط الإنتاج الرأسمالي الذي تقوم عليه العولمة الأميركية والغربية بوجه عام. ولابد في لقاءات بهذه الطبيعة أن تقف على الأفكار السياسية التي يبشر بها شافيز, في علاقتها بزعامته السياسية لبلاده, وبحركة التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي فيها. كما تناولت اللقاءات السياسات الداخلية والخارجية التي تتبعها فنزويلا, بما في ذلك علاقتها ببقية الدول الأخرى في المنطقة, ومدى تأثير وانعكاس ما يجري داخلها على دول أميركا اللاتينية. وقد اعتمد كل هذا السرد والتحليل على معلومات وحقائق ملموسة من التجربة العملية, فضلاً عن الاستراتيجيات العامة التي تتبعها فنزويلا, مما جنبها الاستغراق في الجوانب النظرية وحدها من التجربة.
وإذا كان مفهوم "ثورة المقهورين" قد احتل مكانة بارزة في حركة الفكر السياسي في أميركا اللاتينية بصفة خاصة –ومن ثم ما أصبح متعارفاً عليه في الفكر الديني الثوري باسم "لاهوت التحرير"- فقد وجد هذا الفكر له مكانة خاصة جداً في المنظومة الفكرية لشافيز -إن جازت العبارة- في إطار الرؤى المستوحاة من فكر بطل التحرير القومي سيمون بوليفار الذي قاد حركة المقاومة الوطنية والاستقلال ضد النفوذ الأجنبي في القرن التاسع عشر. وكما سبق القول فإن ثمة تداخلاً ملحوظاً بين الفكر النظري والممارسة العملية, هما اللذان شكلا معاً سياسات واستراتيجيات الثورة الفنزويلية.
وقد تم تدعيم المقابلات الصحفية التي أجرتها مؤلفة الكتاب بمقتطفات كثيرة من خطب وتصريحات لشافيز، وذلك خلال الأعوام الأخيرة حول التحولات السياسية الجارية في بلاده وبلدان الجوار في أميركا اللاتينية. أما الكاتبة, فقد اضطلعت بدور مهم في الكتاب –عدا عن إجرائها للمقابلات الصحفية- وذلك من خلال تحليلها لدور الجيش في السياسة, على المستويين القومي والإقليمي معاً. وتضمن ذلك التحليل, إعداد تسلسل تاريخي لعدد المرات التي تدخل فيها الجيش في السياسة واضطلع بمهام التغيير في أميركا اللاتينية, وما حققه من نجاح وفشل من خلال تلك التدخلات. وبما أن شافيز قد أصبح رمزاً من رموز مقاومة الإمبريالية الأميركية في منطقة أميركا اللاتينية, فإن دوره وتأثيره المستقبلي على بلاده وعلى المنطقة ككل, هما اللذان يمنحان هذا الكتاب أهميته وضرورة الاطلاع عليه, في أي مسعى جاد لفهم ما يحدث في فنزويلا وفي المنطقة اللاتينية عموماً.
وربما كانت السياسات الأميركية المتبعة ضد شافيز في ظل إدارة بوش هي التي شكلت قدراً كبيراً من رؤاه ومواقفه حيال الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي للعولمة الأميركية, وحيال نمط الإنتاج الرأسمالي بوجه عام. والمعلوم أن دول القارة اللاتينية قد تأثرت إلى هذه الدرجة أو تلك بالثورة الكوبية وبالأفكار الاشتراكية وحركة النضال المسلح التي استلهمت الكثير من أسطورة المناضل تشي غيفارا التي ما تزال تشحذ همم ورؤى القادة السياسيين هناك. أما بالنسبة لشافيز, فقد تورطت أميركا على نحو مباشر وغير مباشر في المحاولة الانقلابية ضده, وفي تحريض حركة المعارضة الشعبية عليه, إضافة إلى ما تمارسه من ضغوط اقتصادية مستمرة على حكومته. والقصد من كل ذلك بالطبع, زعزعة نظامه وإضعافه تمهيداً للإطاحة به, سواء عسكرياً أم عبر صناديق الاقتراع. ومثلما رأى عدد من قادة المنطقة تناقضا بين القيم والمبادئ التي تعلنها واشنطن وبين ووقوفها ضد الحرية والديمقراطية التي تقررها صناديق الاقتراع في أكثر من حالة ومناسبة, فقد فطن شافيز للشيء نفسه, مما دفعه إلى بلورة فهم وتصور مختلفين جداً للتغيير الاجتماعي والاقتصا