جميعنا اليوم بلا استثناء أضحى مدمن تكنولوجيا، لم يعد أي منّا يستطيع الاستغناء عن الهاتف الجوال، أو الكومبيوتر والإنترنت. ولا يخلو بيت من الستالايت أو كابل للفضائيات، أو من وسائل التقنية الأخرى التي بات الكل ينام ويصحو عليها، تُشاركه غرفة نومه، وتزاحمه في مخدعه، حتّى صار المرء بين حين وآخر يُطلق مرارة من أعماقه، معلنا حاجته إلى استراحة يلتقط فيها أنفاسه بعيدا عن ضجيج التكنولوجيا التي غدت مسيطرة عليه، توجهه كيفما تريد وصوب أي منحى. ولو سُئل أحد عن الثمن الذي دفعه مقابل تمتعه بوسائل التقنية الحديثة، لأجاب بحسرة أنه يفتقد لحظات دافئة مع أسرته، حيث غرق كل فرد في خضم ثورة العصر التي شدته إلى عالمها الساحر، وتلاشت الصورة النمطية التي كانت تجتمع فيها الأسرة أمام شاشة التلفاز، لتتابع مسلسلاً، أو برنامجاً مسلياً، أو مسرحية فكاهيّة، يتسامر أفرادها ويتضاحكون ويعلقون على ما يجري أمامهم.
الآباء الذين لم يلحقوا بعصر الثورة المعلوماتية، يرددون دوما أمام أبنائهم وأحفادهم، بأنهم يحمدون الله على أن نارها لم تلسعهم، مترحمين على زمنهم الذي كان على الرغم من طبيعته القاسية، وبساطة الحياة وقتها، إلا أنهم لم يخسروا طمأنينة بالهم، ولم يفقدوا حرارة تواصلهم، بل ويتفاخرون طوال الوقت بأنهم أوفر حظا من الأجيال الجديدة، لأن الحياة لم تكن تزخر بالضغوطات التي نتجت عن إيقاع الحياة سريع الوقع، وأدت إلى انتشار أمراض القلب، وارتفاع ضغط الدم، والجلطات القلبية والدماغية.
بالطبع شبكة الإنترنت تعتبر من أهم الإنجازات الحضارية في العصر الحالي، من خلالها تنتشر المعارف على مختلف روافدها بكل أرجاء العالم كما تنتشر النار سريعا في الهشيم. ومن خلال شبكة الإنترنت كذلك صارت قنوات التعارف والتواصل بين مختلف الجنسيات والأعمار تتم وإن كانت تقيم في أقاصي العالم. كما أن هناك زيجات كثيرة وعلاقات حب وطلاق تمت من خلالها أيضا. وأذكر أنني قرأت خبرا بأحد المواقع يتحدّث عن حالات انتحار جماعية قام بها أناس يائسون من حياتهم، وكان المحرّض لهم شخصا أوجد لنفسه موقعا على الانترنت، واستخدمه في التواصل معهم، وتقديم تسهيلات كثيرة لهم، ساهمت في وضع نهاية مأساوية لحياتهم.
هل التكنولوجيا نقمة أم نعمة علينا؟! من حين لآخر أفتح النقاش حوله مع صاحباتي ورفيقاتي، فأندهش حين أكتشف بأن هناك من ترفض إلى اليوم السير في ركابه، بحجة أنه سلاح خطير في ترسيخ الكثير من المظاهر السلبية، وحماية لأولادها من التورط في علاقات مشبوهة بعيدا عن رقابتها. وهناك من ترى بأنه أعظم إنجاز علمي حققته البشرية، يجب الاستفادة من كافة مزاياه. وهناك من ترى بأنه على الرغم من الانقلاب الذي أحدثه في حياة الناس، إلا أنه دمر الروابط الأسرية، وباعد بين أفراد الأسرة، الذين أصبحوا يعيشون كالغرباء تحت سقف بيت واحد.
كل شيء في الحياة له مردود سلبي وإيجابي، ومن غير الممكن أن نتقوقع على أنفسنا بحجة حماية واقع حياتنا من التشوه الذي قد تُحدثه بدواخلنا. لقد دفعنا الثمن غاليا من راحة بالنا لنتمرغ في ربوع التكنولوجيا الحديثة التي عشقناها حتّى الثمالة، ولكن ألا يشبه هذا النوع من العشق رقصة السامبا الشهيرة التي توقع صاحبتها أرضا، إذا لم تتدرب كيف تُحافظ على توازن جسدها وهي تتمايل على إيقاعاتها السريعة!!