دعوها نائمة
بوابة التاريخ حافلة بالفتن التي تلحق أي دين أو مذهب دنيوي، والتاريخ حافل بمجاميع من الفتن التي لو أتينا على ذكرها لظن القارئ بأن تاريخنا لا يحتوي إلا على هذه السلبيات.
ومن المفارقات الصارخة أن كل الفتن التي وقعت في الأمم السابقة واللاحقة، كان أتباعها ومذكو أوارها يرفعون راية الدين كما رفع المصحف على رأس السيف في فتنة الجمل المشهورة.
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصف الفتن في الكثير من أحاديثه التي رسمت دروب المستقبل بقوله: (ستكون فتن كقطع الليل المظلم..)، (الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها).
فالعراقيون بكل أطيافهم المتناقضة مأمورون شرعاً وعقلا ومنطقا أن ينتجوا عقارا خاصا لتخدير وقتل هذه الفتن في مهدها وإلا أصبحوا ضحايا بدون فوارق بين تفاصيل معتقداتهم.
وحرصنا الشديد يوجب علينا حث إخواننا في العراق لعمل المستحيل لترك الفتنة في مخدعها وعدم إزعاجها أو المساس بها، لأنها إذا استيقظت لا يفرق حريقها بين الأخضر واليابس أو الطيب والفاسد فالكل عندها سيان فالخير كل الخير في إكثار عوامل بقائها نائمة.
إن شواهد التاريخ في الماضي الإسلامي دليل قاطع على أن الفتن أخذت من عمر الأمة الإسلامية والعربية أزهى مراحلها وحولتها إلى رماد طيرته الريح في الأجواء وغرست آثارها السحيقة في الأعماق قروناً عدداً.
فالفتنة الطائفية أو الأهلية مهما أخذت من المسميات فإنها عملت عملها السيئ في التاريخ المعاصر ولن نذهب بعيدا فلقد استمرت في لبنان قرابة العقدين حتى أنقذها اتفاق الطائف، واستمرت في السودان لأكثر من ذلك حتى خفت باتفاق الشمال مع الجنوب ولازال مفعولها باقياً في الصومال المقسمة إلى سبع دول لم تملك الجرأة على تشكيل حكومة هانئة في أرضها، وفي أرض أفغانستان بعد خروج الاتحاد السوفييتي السابق ملأت الفتنة القبلية الفراغ فحولت (الجهاد) ضد العدو الأوحد إلى الصراع لصالح شهوة الحكم التي أقرها بعض زعماء القبائل آنذاك.
فالعراق ليس في حالة شبيهة بتلك الدول قاطبة لأنها محتلة وماضية وفق النهج الديمقراطي. مع وجود كل ألوان الطيف السياسي والديني والمذهبي، يصبح الوضع شائكا إلى درجة المشي في حقل مليء بالألغام، فاستحقاقات النجاة ليست بتلك السهولة مع وجود متربصين بتجربة العراق في الديمقراطية التي لن تستمر مع أي فتنة مشتعلة لأنها أول ثمرة تأكلها وتذروها كالهشيم.
فالعراق وحده لا يستطيع اتخاذ القرار الجازم لأنه مرتبط بامتداد الإسلام والعروبة والخريطة الجديدة التي تتشكل في قلب الحياة السياسية، وحول العراق مثلث برمودا يجب المرور من خلاله بسلام قبل أن تبلع الفتنة البقية الباقية من ثمرة الحكومة التي لم تشكل بعد فهناك أطراف معروفة لها المصلحة الواضحة لوصول العراق إلى حالة من الفوضى العارمة التي ينتظرها صيادون مهرة في المياه الآسنة.
فأميركا لن تستطيع إخماد الفتن الطائفية إلا بأسلوبها العسكري فهي لا تملك تجربة ناجحة في ذلك طوال فترة تحالفاتها مع الدول الكبرى والصغرى ولا تطالب كذلك بحل النزاعات الفكرية بين الشيعة والسنة لأنها ليست معنية بذلك.
فالأمر يعود إلينا في الدول العربية والإسلامية قاطبة حتى لا يتسع الخرق وتتحقق فيهم مقولة (ويل للعرب من شر قد اقترب) وليس هناك شر أشد من الفتنة (والفتنة أشد من القتل)، (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)، فعلى قادة العرب والمسلمين إنتاج مضادات حيوية تقف حائلا دون إيقاظ الفتنة مع رجائنا الحار بتركها نائمة تغط في سباتها.