لقد مر العالم العربي بمرحلة من السبات والبيات الشتوي, جراء تسويفه لعدد من المشكلات والضغوط الآنية الملحة, على إثر هبات وانتفاضات شعبية واعدة في كل من لبنان وسوريا ومصر وفلسطين. أما التحول الديمقراطي, فإما جرى التقليل من شأنه وأهميته, أو تضافر عدد من الأنظمة العربية الحاكمة على خنقه وقتله, خاصة وأن هذه الأنظمة لم ترد للإصلاح أن يتحقق في يوم من الأيام. كما شهدت حركة الإصلاح الرامية إلى فصل الدين عن الدولة انتكاسة كبيرة هي الأخرى. وفي الوقت الذي انشغل فيه الأميركيون تماماً بما يجري من تطورات في العراق, نلاحظ في المقابل انشغال الأوروبيين بمشكلة التعامل مع الجاليات الإسلامية الكبيرة المهاجرة إلى بلدانهم, خاصة ما شهدته بعض عواصم أوروبا من عمليات إرهابية نسبت إلى أفراد من هذه الجاليات, على نحو ما حدث في كل من مدريد وأمستردام ولندن. والمشكلة التي يجب لفت الأنظار إليها هي أنه ما أن تنقشع سحابة هذه الأحداث جميعاً, سواء كانت في العراق أم في أوروبا, فإن الخاسر الوحيد في نهاية الأمر, سيكون العرب الأوروبيين والشرق أوسطيين على حد سواء.
وفيما يتصل بتقييم مسار القضية الفلسطينية, فإنه من الجدير بالقراءة ما كتبه وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر, في عدد من صحيفة "واشنطن بوست" مؤخرا. وسواء اتفقنا معه أم لم نتفق, فإن كيسنجر لا يزال عميد الدبلوماسية الأميركية وعرَّاب كافة الاستراتيجيات السياسية بلا منازع, ولا يزال كما كان ذلك الميكافيلي العملي في عقد التسويات والمساومات السياسية. وبين جملة أشياء تناولها وتحدث عنها في مقاله المذكور, لاحظ كيسنجر أن إبرام أية صفقة سلام جادة وحقيقية, إنما يتطلب استعداداً متبادلاً من كلا طرفي النزاع, لتقديم التنازلات المفضية إلى التسوية. ويذكرنا كيسنجر بأن إسرائيل هي من رفض التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية, مباشرة عقب محادثات أوسلو. والسبب هو ميثاق المنظمة الذي ينص صراحة على محو وإزالة إسرائيل من الوجود, بينما تتضمن سياساتها المتبعة والمعلنة, وسائل وأدوات العنف, كأحد الخيارات والبدائل الممكنة. ولكن الذي حدث هو أن المنظمة أجرت تعديلاً على ميثاقها لاحقاً, نص على حق إسرائيل في البقاء, وتبنى حل إقامة الدولتين المستقلتين المتجاورتين.
ثم وكأن معجزة ما قد حلت بإسرائيل, تولى دفة رئاسة وزرائها إرييل شارون في عام 2001, وشرع في التراجع شيئاً فشيئاً عن أفكاره ومواقفه المتطرفة, وصولاً لإعلانه الانسحاب أحادي الجانب من المستوطنات والأراضي المحتلة, متبوعاً ومقترناً بقبوله لمبدأ قيام الدولة الفلسطينية المستقلة, رافعاً تلك الموافقة إلى مستوى المطلب الاستراتيجي الإسرائيلي, خلال العامين الماضيين!
لكن وعلى إثر فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية الأخيرة, ومن ثم صعودها وإمساكها بدفة القيادة الفلسطينية, ها هو كل الذي أنجز وتحقق في الماضي, يعود مرة أخرى إلى المربع الأول, وكأننا "يا عمرو لا رحنا ولا جئنا". أقول هذا لأن "حماس" لم تغير بعد قناعتها واستراتيجيتها الراسخة, القائلة بضرورة استمرار "الكفاح المسلح" حتى يتحرر كل شبر من تراب الوطن الفلسطيني, من نهر الأردن وحتى حدوده التاريخية الممتدة إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط. وفي هذا فإن أكثر ما يدهشني هو إيثار العرب وميلهم الدائم إلى الاتكاء على الوهم الماضوي, أكثر من إبحارهم في موج المستقبل وشق طريقهم المفضي إليه.
أما الحصيلة الناتجة عن السلسلة الطويلة من المفاوضات العربية- الإسرائيلية, فهي توقيع دولتين عربيتين لاتفاقات سلام، وتطبيع علاقات مع تل أبيب, انتهت إلى تعيين سفراء يمثلون إسرائيل في عاصمتيهما, وهما تحديداً مصر والأردن. والسؤال الذي لابد لنا من الوقوف عنده هنا هو: ألا تزال "حماس" تتمسك بحقها في حرب إسرائيل؟ وإن كانت الإجابة بـ"نعم", فبأي أسلحة يا ترى, ومع أي حلفاء؟ على قادة حركة "حماس" الإسراع بتقديم إجابات قاطعة ومحددة على هذين السؤالين, قبل أن يباشروا قيادة شعبهم الفلسطيني إلى متاهة جديدة لا تؤدي إلا إلى المستحيل والعدم!
يلي ذلك انتقالنا إلى وجه آخر من النزاع وتضارب الحقائق فيما يتعلق بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة, وما ثار بين مختلف الأطراف والقيادات في هذا الخصوص. ففي الموقف المعلن لحركة "حماس" نجد تمسكها الثابت بحق الأربعة ملايين لاجئ فلسطيني, المنتشرين في الأردن ولبنان وسوريا ومصر وعدة دول غربية, في العودة إلى ديارهم وبيوتهم التي تحولت عملياً الآن إلى مدن وقرى إسرائيلية. والبديهي أن عودة واسعة بهذا الحجم, ليس مقدراً لها أن تتحقق بأداة التفاوض السلمي مع إسرائيل, وإنما قسراً وبقوة السلاح. والبديهي أيضاً أن إسرائيل ليست على استعداد لإجلاء مليوني نسمة من مواطنيها الذين استقروا في تلك المدن والقرى موضع النزاع. والأقرب إلى المنطق أن تعمد إسرائيل إلى إبعاد الفلسطينيين مسافات إضافية من القرى والمدن المذكورة, على أمل أن تتحول القضية الفلسطينية بكاملها, إلى قصة م