يلاحظ المراقبون حالة تحول هوسي من جانب أقطاب الحكومة الإسرائيلية الحالية منذ أيام، فبعد أن كانت حملتهم منصبة على التحذير من حكومة "حماس"، ودعوة المجتمع الدولي إلى عزل هذه الحكومة عن المعاملات السياسية والاقتصادية، إلى أن تخضع للشروط الإسرائيلية المعلنة وهي "نبذ الإرهاب والاعتراف بإسرائيل واحترام الاتفاقيات الموقعة وإلغاء ميثاق الحركة"، إذا بحملتهم تتخذ بعداً جديداً موجهاً ضد الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
فجأة أصبح الرئيس الفلسطيني في نظر إيهود أولمرت ووزير دفاعه شاؤول موفاز ووزيرة خارجيته تسيبي ليفني، غطاء لسلطة فلسطينية إرهابية، ومجرد صورة معتدلة يختفي خلفها إرهاب بشع. ترتيباً على هذا، أصبح المطلوب من العالم -من وجهة نظر حكومة إسرائيل- عدم الوقوع في "حبائل" الرئيس الفلسطيني وعدم تصديق التزاماته بعملية السلام واتفاقيات أوسلو، وكذلك عدم تصديق تصريحاته بأن حركة "حماس" من أكثر الفصائل الفلسطينية التزاماً بالتهدئة والهدنة مع إسرائيل وأنها في سبيلها إلى التكيف مع الإرادة الدولية لسلوك المسار السياسي.
من الواضح في تقديري، أن هذا الانقلاب الهوسي في موقف الحكومة الإسرائيلية، جاء نتيجة لحالة الانفراج الدولي النسبي تجاه "حماس"، والذي عبر عنه أساساً قرار الاتحاد الأوروبي بالإفراج عن 120 مليون يورو من المساعدات المخصصة للشعب الفلسطيني. لقد جاء هذا الانفراج ليمثل تراجعاً عن الميل إلى فرض الحصار الاقتصادي على السلطة الفلسطينية من جانب الاتحاد الأوروبي، وهو الميل الذي غذته الدبلوماسية الإسرائيلية في فورة الإعلان عن نتائج الانتخابات وفوز "حماس".
إن التصريحات الصادرة من مصادر الرئاسة النمساوية للاتحاد الأوروبي في فيينا، بأنه ليس من مصلحة أحد انهيار السلطة الفلسطينية بسبب نقص التمويل المالي المتاح لها، تمثل ذروة خيبة الأمل الإسرائيلية من نجاح مخططها السابق لفرض الحصار على "حماس" وتفسر في نفس الوقت، الزيارة العاجلة التي بدأتها وزيرة الخارجية الإسرائيلية إلى دول الاتحاد الأوروبي.
وفي تقديري، أن جولة الوزيرة الإسرائيلية في دول الاتحاد الأوروبي ستحاول حصر الأضرار التي لحقت بالمخطط الإسرائيلي، من جراء الإفراج عن مبلغ المئة وعشرين مليون يورو، وذلك بمطالبة الاتحاد الأوروبي بالتوقف عند هذا الحد وعدم مواصلة دعم السلطة مالياً بشكل منتظم خاصة بعد أن تستكمل "حماس" تشكيل حكومتها.
إن علينا أن نلاحظ أن هناك مساحة للعب السياسي يجب ألا تتركها الدبلوماسية العربية، كمساحة خالية للسياسة الإسرائيلية بمفردها لتحقق أهدافها. ومن هنا فإن الأداء المتميز الذي كشفت عنه دبلوماسية الدول العربية الفاعلة والنشطة في المرحلة السابقة لمنع الحصار الدولي عن السلطة، يجب أن يتواصل اليوم وغداً بنفس الفاعلية. إن اكتشاف مساحة اللعب السياسي المفتوحة حالياً أمر يسير إذا ما وضعنا تحت المجهر تصريحات الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا.
إن مساحة اللعب السياسي المفتوحة أمام إسرائيل وأمام الدبلوماسية العربية على حد سواء، تبدأ بعد تشكيل حكومة "حماس" إذن. وليس فقط واجبا علينا التحرك، بل علينا إقناع الأوروبيين والأميركيين معاً، بأن الوقت المطلوب لـ"حماس" لا يجب أن يمر خالياً من مبادرة دولية ضاغطة على إسرائيل للإعلان الصريح عن استعدادها لإقامة الدولة الفلسطينية على كامل الضفة وغزة.
إن مثل هذه المبادرة هي الكفيلة بدفع "حماس" إلى الاندماج في المسار السياسي السلمي على أساس رؤية واضحة لملامح التسوية. إن تحركنا العربي على هذا النحو يمثل الرد المناسب على ادعاءات وزيرة الخارجية الإسرائيلية، أن الرئيس الفلسطيني هو ورقة التوت التي تغطي "حماس". علينا أن نبلور بصورة واضحة أن ميول إسرائيل لقضم مساحات من الضفة، هي المشكلة الحقيقية في عملية السلام برمتها، والتي تتستر بادعاءات المسار السياسي الذي يتشدق به الإسرائيليون.