أصبحت مواجهة الظاهرة الأميركية أمراً حيوياً لأنها جزء مما يعتبره البعض تحالفا بالغ الخطورة والعدوانية. وإذا كانت أشد التعبيرات تطرفاً عن فكر ذلك التحالف يمكن أن تقرأ في أقوال غلاة التطرف الصهيوني من أمثال القس رابينوفيش الذين ينادون بإشعال الحروب والاضطرابات في العالم، فإن أداة ذلك التحالف التي يحاول جاهدا استغلالها هي القوة العسكرية- الصناعية- المالية الأميركية الهائلة. إن استراتيجية الحرب الأميركية الجديدة هي بناء نظام مالي واقتصادي حربي. ولذلك فالمقارعة في المجال العسكري مستحيلة. لكن كسر السلسلة الثلاثية في أحد مكوناتها الأخرى (المالي أو الصناعي) ممكن ومطلوب.
إن العرب، وهم يواجهون تحالفاً وقوى تريد فرض المشروع الصهيوني برمّته وتريد تدمير مشروعهم النهضوي في كل مكوناته وتريد أن تحرمهم من القدرة على الاستفادة من الفرصة التاريخية الحالية لاستعمال فائض الثروة البترولية لبناء نهضة كبرى، مطالبون بأن يساهموا في كسر تلك السلسلة الثلاثية الجهنمية بكل الوسائل التي يستطيعونها من الضغط الاقتصادي.
فأولاً، هناك جبل الدّين القومي الأميركي الذي يقترب من الثمانية تريليون من الدولارات. وهو دين يزداد باستمرار عند دولة تحافظ على رفاهية مجتمعها على حساب كل مجتمعات العالم. إن الدائنين الأجانب يوفرون تسعين في المئة من مبلغ ملياري دولار تحتاج أميركا أن تحصل عليه يومياً حتى تسدد أقساط ديونها للبنوك. ومن بين الدائنين، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بعض أصحاب الثروة البترولية العرب. إن ذلك الوضع مازال ممكنا لأن العالم لا يزال يقبل بأن يكون الدولار هو عملة الاحتياط للتعاملات الدولية. لكن هناك دلائل على أن دولاً مثل روسيا والصين والهند تتجه إلى استبدال الدولار الأميركي باليورو الأوروبي ولو جزئياً وذلك تحسباً من يوم سيأتي عندما يهبط سعر الدولار بنسب كبيرة من جراء نقاط ضعف كثيرة في الاقتصاد الأميركي ومن جراء المغامرات لقيادته السياسية. فلماذا لا تنحو دول البترول العربية المنحى نفسه كمواجهة جزئية لدولة يراها البعض إمبريالية في كل تعاملاتها معنا؟ وهل حقاً أننا لا نستطيع ممارسة أي ضغط على دولة تخنقنا بضغوطاتها؟ خصوصاً عندما نقرأ أقوالاً من مثل وصف كروجمان أستاذ الاقتصاد في جامعة برينستون بلاده بأنها في طريقها لتكون واحدة من جمهوريات الموز بسبب سوء تصرفاتها المالية والاجتماعية وديونها الهائلة.
إن فصل السياسة عن الاقتصاد والمال عند التعامل مع من يضغط عليك أمر لا يقبله المنطق ولا الواقعية.
وثانيا، هناك حلقة الصناعة في السلسلة الثلاثية. وبالطبع فإن الصناعة العسكرية الأميركية في قلب الموضوع. إن توازن الصادرات مع الواردات قد أصبح موضوعاً مقلقاً لأميركا. فأميركا التي كانت أكبر مصدر للمواد الغذائية بدأت منذ العام الماضي باستيراد كميات كبيرة من الأغذية. إن ذلك يعني أن هذه الدولة تحتاج إلى أن تزيد في صادراتها في الحقول التي تتفوق فيها ومن أهمها حقل الصناعة العسكرية. والسؤال الذي يطرح نفسه: ألا تستطيع دول الأمة العربية، وهي من أكبر مستوردي المنتجات الأميركية، أن تستعمل هذا الوضع الأميركي الصعب لتساوم وتناور بالنسبة لشراء المنتجات الأميركية؟
هذان مثلان لأشكال من الحقول التي يمكن التحرك في أرجائها. لكن المشكلة الكبرى أن الحركة المطلوبة تحتاج إلى مبادرات لا يود بعض الأنظمة العربية أن يقوم بها. من هنا الأهمية البالغة للدور الذي يمكن أن يلعبه المجتمع المدني للضغط على بعض حكوماته وهو موضوع سبق وأن طرح ألف مرة. وعليه فان لبَّ المواجهة العربية للظاهرة الأميركية لن ينضج إلا بنضوج قوى المجتمع العربي الفاعلة. نضوج هذه القوى أصبح يمثل حالة طوارئ لا يمكن تجاهلها وإلا فالطوفان قادم.