جاءت "فتنة الأربعاء الأسود" الأسبوع الماضي في العراق، لتؤكد أن الطبقة السياسية تنام على حرير، بينما البلد يغرق. فهذه الطبقة بكل أطيافها مسؤولة عن التدهور الذي يحدث، ولكن مسؤولية القوى المتشددة مذهبياً في "الائتلاف الموحد" هي الأكبر، بسبب سلوكها غير الديمقراطي الذي نشهد آخر تجلياته في طريقة تعاملها مع تشكيل الحكومة الجديدة، وقبل ذلك مع العملية السياسية عموماً على نحو يفرّغ الانتخابات من مضمونها.
ولذلك قد تكون النتيجة هي تشكيل حكومة لا تختلف كثيراً عن تلك المنتهية ولايتها التي لم تحقق إنجازاً يُذكر، بل عاد الوضع الأمني والاقتصادي في عهدها إلى التدهور بعد أن كان قد شهد بعض التحسن الجزئي في الشهور الأخيرة من عام 2004 وبداية عام 2005.
فما فائدة الانتخابات إذن ما دام الناخبون لا يستطيعون أن يختاروا عبرها من يصلح أحوالهم؟ السؤال يبدو منطقياً، لأن الحكومة المعنية التي نقلت إليها السلطة في منتصف عام 2004 كان أداؤها أفضل من الحكومة المنتخبة في انتخابات يناير 2005، والتي يرجح أن يبقى هيكلها العام مع تعديل طفيف يحصل بمقتضاه تحالف قوائم العراقية والتوافق والحوار الوطني (المجلس المشترك للعمل الوطني) على دور ثانوي. وهذا هو ما أصبح متوقعاً بعد أن عجز الخائفون على مصير العراق من أعضاء "الائتلاف الموحد" الشيعي عن تغيير إبراهيم الجعفري الذي يعرفون أنه مرفوض من جميع القوى الأساسية الأخرى تقريباً، الكردية والسنّية والعلمانية.
لقد حكم صدام حسين العراق وهو مرفوض من الجميع، ولكنه لم يأتِ إلى السلطة عبر انتخابات. ومن هنا منطقية السؤال عن فائدة هذه الانتخابات. وهذا سؤال يمكن أن يثار مثله في بلاد عربية أخرى أهمها الآن مصر التي اختتمت عام 2005 بكل ديناميكيته غير المسبوقة منذ 1954 بانتخابات عاد الوضع السياسي بعدها إلى الجمود لأسباب من بينها صعود "الإخوان" قوة وحيدة بديلة عن الحزب الحاكم. فما الذي يجعل الانتخابات سبيلاً إلى الجمود، وليس طريقاً للحيوية؟
الإجابة على هذا السؤال تقتضي أن نتفق أولاً على أن وجود صندوق يضع فيه الناس أوراقاً اختاروا فيها أسماء أشخاص أو قوائم، لا يعني أن هذا الاختيار هو انتخاب بالمعنى المعروف لهذا المصطلح في الفكر الديمقراطي وفي الممارسة السياسية.
لقد ذهب غالبية من العراقيين، وأقلية من المصريين، فاختاروا من بين قوائم وأشخاص، ولكن ليس كل اختيار انتخاباً. فانتخاب مجالس نيابية تمثيلية هو عمل من أعمال السياسة، لأن هذه المجالس جزء رئيس في النظام السياسي، ولذلك يُفترض أن يكون في عملية انتخابها حد أدنى من التنافس السياسي، أي التنافس بين أطروحات سياسية تكون البرامج هي أعلى تعبير عنها.
ولكن ما حدث هو أن معظم العراقيين خرجوا في يوم 15 ديسمبر الماضي ليختاروا طائفة أو عرقاً. ولذلك واصلت قائمتا "الائتلاف الموحد" الشيعية الطائفية و"التحالف الكردستاني" الكردية العرقية حصدهما للأصوات في محافظات الجنوب ذات الغالبية الشيعية ومحافظات الشمال ذات الغالبية الكردية. وبالرغم من أن اتهام الحكومة المؤقتة المنتهية ولايتها بالتزوير لمصلحة "الائتلاف" الشيعي يقوم على أساس قوي، لم يكن هذا التزوير وراء تفوقه بل نمط التصويت الطائفي. وكان هذا متوقعاً قبل الانتخابات، بالرغم من سوء أداء الحكومة المؤقتة التي قامت على تحالف بين هاتين القائمتين. فلو كانت هذه انتخابات حقاً لعاقب بعض من الجمهور الشيعي القائمة التي اختارها في يناير 2005.
أما أن يذهبوا لتكرار الاختيار نفسه دون أدنى تفكير وكأنهم مساقون إلى قدر لا يملكون منه فكاكا، فليس هذا من سمات الانتخابات كما يعرفها من مارسوها في مهدها الأوروبي- الأميركي وفي البلاد التي انتشرت فيها.
وبالرغم من اختلاف الوضع في "الانتخابات" المصرية، فهو يظل في دائرة الاختيار غير العقلاني ولكن في شكل آخر. كان للانتماءات الأولية أيضاً دورها الكبير في هذه الانتخابات، خصوصاً الانتماء الديني والعائلي والعشائري والجغرافي- المناطقي أو الجهوي. فالتباعد المتزايد بين المسلمين والأقباط منذ أكثر من ثلاثة عقود جعل المجلس الجديد من دين واحد، فلم يفز إلا مرشح قبطي واحد، وقد فاز لأنه وزير مهم وقفت وراءه الدولة بكل ثقلها، وليس لأنه قبطي. ووفرت موجة التدين التي انتشرت في المجتمع أرضية ملائمة لمرشحين رفعوا شعار (الإسلام هو الحل) دون أن يقدموا حلاً محدداً لأي مشكلة. وحصدوا نحو 20 في المئة من مقاعد المجلس.
وتواصل دور الانتماء العائلي والعشائري بالرغم من تفكك معظم العائلات الكبرى لعوامل تتعلق بالتغير الاقتصادي والاجتماعي، الذي حدث خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وفاز مرشحون ينتمون إلى بعض هذه العائلات. غير أن صعود دور الانتماءات المناطقية جعلها أكثر أهمية في كثير من الأحيان مقارنة بالانتماءات العائلية والعشائرية، وإن امتزجا في بعض الحالات. ففي الدوائر الريفية، التي تمثل معظم الدوائر الانتخابية في مصر، أصبحت القرية كتلة انتخابية واحدة في معظم الأحيان،