عادت السيدة كوندوليزا رايس لبلادها دون أن تحصل على أي تنازل يذكر من الحكومات العربية في مجال الدمقرطة؛ فقبل أن تأتي إلى المنطقة, كان مجلس الشعب المصري قد قرر تأجيل انتخابات المجالس المحلية لعامين مرة واحدة، كما قرر المجلس أيضا تأجيل طرح مقترحات التعديلات الدستورية. والآن يكون قد مر عام كامل شهدت فيه مصر انتخابات وحكايات, ثم عاد كل شيء إلى ما كان عليه, وكأنْ لم يحدث شيء من الداخل أو الخارج. وكانت الولايات المتحدة قد طرحت مبادرة "الشرق الأوسط الكبير" بصورة غير رسمية في نهاية عام 2003, وأخذ المشروع يتبلور وصولا إلى إقراره من جانب الدول الثماني الصناعية الكبرى, ثم توالت المشروعات التي تزعم إصلاح الشرق الأوسط وتعزيز الديمقراطية فيه منذ ذلك الوقت. ولم يحدث تحول ديمقراطي في أي بلد عربي, بل ربما يكون الاحتكار السياسي قد تفاقم وازداد الغموض حول المستقبل سوءاً.
انتصر الرئيس مبارك, مع عدد آخر من الرؤساء والملوك العرب على مثقفيهم في الداخل وعلى الدول المتقدمة الثماني في الخارج. خف البطش قليلا ولكن الحكومات احتفظت بـ"الحق في البطش". ويجب الاعتراف بأن أميركا بكل وزنها وثقلها لم تنجح في تغيير أسلوب الحكم الاستبدادي في العالم العربي. وربما يعود الفشل إلى الخوف من التفكك -إذا حلت الديمقراطية- بتأثير عوامل شتى مثل التطرف الديني والفجوة الاجتماعية المتفاقمة والشعور الحاد بالظلم القومي الواقع على العرب من جانب أميركا تحديداً. ولهذا السبب يؤكد القادة العرب أن الأولوية في الإصلاح السياسي للمنطقة يجب أن تكون حل الصراع العربي- الإسرائيلي, فبدونه لا يمكن تجفيف منابع الغضب المتصاعد والتطرف المتزايد. وفشلت أميركا في تغيير العرب لأنها لم تعالج هذه القضية أولا, بل زادتها سوءا.
فإذا لم تنجح أميركا في تغيير العرب, هل يمكن للعرب أن يغيروا أميركا؟ السؤال يبدو عبثيا أو مستحيلا. فكيف يمكن للأتباع تغيير الكفيل الأكبر؟ وكيف يمكن للدول الصغيرة أن تغير هذا العملاق أو القطب العالمي الأوحد؟ حسنا, لقد فعلها أسامة بن لادن وغيَّر أميركا للأبد, ربما! فلماذا لا تغيرها عدة دول عربية معاً, بطريقة مختلفة؟
لقد تمكنت مصر من تغيير أميركا من قبل, عندما اضطرت أميركا للتدخل ضد البريطانيين والفرنسيين بل وإسرائيل في أزمة السويس عام 1956, التي يمر عليها هذا العام نصف قرن كامل. وغيرت مصر الولايات المتحدة مرة ثانية عندما أدخلت الروس إلى المياه الدافئة أو البحر المتوسط, فأدى التواضع الذي أجبرت أميركا على التحلي به بفضل نهاية احتكار النفوذ إلى الوفاق الأول بين العملاقين بداية السبعينيات. ثم غيرت مصر أميركا مرة ثالثة عندما طردت الروس من مصر, ومنحت الأميركيين وضعا مهيمنا من جديد, على أن يكون ذلك عربوناً للسلام العادل والدائم والشامل الذي نصت عليه "اتفاقية كامب ديفيد" عام 1978. ولم تفِ أميركا بهذا الشرط, ولكن مفهوم السلام نفذ إلى قلب الثقافة السياسية الأميركية, دون مبالغة. والسؤال الآن هو: ماذا تريد مصر والدول العربية من الولايات المتحدة, وكيف تحقق مبتغاها؟
تريد الدول العربية صفقة جديدة تقوم على الشراكة لا الوصاية التي تفرضها أميركا. وتريد الدول العربية أن تبدأ مستقبلاً جديداً للمنطقة بدءاً من حل المشكلات القديمة وخاصة المشكلة الفلسطينية, والصراع العربي- الإسرائيلي بشكل عام. الصفقة تقوم في الجوهر على حل مجمل الصراع حلاً عادلاً مع مختلف الأطراف العربية, مقابل التزامات طويلة المدى تحقق توازن المصالح بين الولايات المتحدة والعرب. هذه الصفقة تؤدي إلى تخفيض أجواء التحريض الذي يدفع الشباب العرب للتطرف والعنف, وتتيح تطوراً آمناً نحو حكم القانون والمشاركة الديمقراطية, ومن ثم النهوض الاقتصادي والاجتماعي. الالتزامات طويلة المدى تستجيب أساسا للمصالح النفطية المنطقية للولايات المتحدة وأوروبا الغربية والسوق العالمي, كما تنشئ نظاماً للضمانات الدولية للأمن بين العرب وإسرائيل, وتساعد على وضع نهاية عادلة للعنف والإرهاب.
هذه الصفقة لا تحمل فكراً عربياً جديداً, فهي تقوم على مبادرة العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز, ولكنها تضيف ما يتفق عليه مفكرو ومثقفو الأمة العربية من ضرورة استتباب حكم القانون والتطور إلى الديمقراطية والعقلانية الثقافية في المجتمعات العربية, وهو الأمر الذي اكتشفت الولايات المتحدة أنه جوهري لأمنها القومي. أما الجديد فينصرف إلى الطريقة التي يقترح بها العرب هذه الصفقة على أميركا. الطريقة التي نعنيها هي أن تكون تلك الصفقة موضوع تفاوض بين عدد من القادة العرب مجتمعين والرئيس الأميركي وإدارته, بل وعدد من أهم أعضاء الكونجرس. ما نهتم به هنا أن تكون هناك جلسة مفاوضات هي أقرب إلى الندوة السياسية التي يشرح فيها كل طرف حججه ومصالحه الجوهرية, وما يطلبه من الطرف الآخر بوضوح واستفاضة وعلانية وما يلتزم به على المدى البعيد مقابل احترام هذه المصالح. المطروح هو شيء أقرب إلى المن