العالم (فكرة وإرادة) هكذا كتب الفيلسوف شوبنهاور، وهشام علي حافظ كان كذلك. وحسب برتراند راسل فإن عصر التنوير في أوروبا يدين لمئة رجل أو يزيدون، ولا يمكن لأي باحث أن يتصدى للقفزة الإعلامية في العالم العربي؛ إلا ويعترف أن هشام علي حافظ كان من روادها المبدعين. عرفت الرجل عن كثب خلال السنوات القليلة الأخيرة من عمره، في وقت متأخر، مع هذا كان كافيا لإخراج كتابي (أيها المحلفون الله لا الملك) وكتاب (فقد المناعة ضد الاستبداد).
وفكرة الكتاب الأول ترجع إلى قصة في الهند، حينما دعي مولانا محمد علي ليخدم في الجيش البريطاني، فسجل سابقة هي الأولى من نوعها، حين تمرد على هذا القرار، بقوله لا، وهي نفس الكلمة التي كررها (شينتارو أيشيهارا) عضو الدايت الياباني في كتابه (اليابان تقول لأميركا لا) أي حرصها على ألا تتسلح، وأن تبني نفسها بالعقل والخبرات وليس بالسلاح والغزوات. وهي نفس تجربة ألمانيا في بناء الاتحاد الأوروبي، فمع أن البلدين كليهما كانا محتلين من أميركا، وهزما هزيمة ساحقة في الحرب العالمية الثانية، ولكنهما خرجا من الرماد ليس بحرب تحرير شعبية، بل بطريقة مبتكرة لم تفهمها بعد قيادات الدول العربية طريقا للتحرير، وهو ما جعل الشعوب العربية تنتقل من فترة الاستعمار الخارجي، إلى استبداد داخلي أشد هولا ونكرا. وهذه الفكرة الثانية كانت مشروعنا المشترك، وأنا اقترح عليه إعادة نشر كتاب (العبودية المختارة) لفيلسوف فرنسي كتب ما كتب عام 1562، عن كيفية سقوط الشعوب في قبضة الاستبداد، وطريقة التحرر كما جاء في أول سورة من القرآن، في مناقشة أهم مشاكل الاجتماع الإنساني، أعني الطغيان، بعدم قتل المستبد أو تفجير المجتمع وبنيتيه التحتية بطريقة أو أخرى، بل بالشهادة على طريقة أصحاب الأخدود، بقول لا... وهي أعظم قوة يتحلى بها الضمير الإنساني، فيولد الإنسان محررا من علاقات القوة، وهذه الفكرة النبوية هي التي أوحت لنا نحن الثلاثة (هشام علي حافظ) وداعية اللاعنف (جودت سعيد) وأنا، بمشروع الكتاب الثاني (فقد المناعة ضد الاستبداد) وفكرته تدور حول أن المرض يحدث ليس لوجود الفيروس، بل بالأحرى بسبب انهيار الجهاز المناعي، وهي علة العلل في انفجار الأمراض، وسقوط الدول، واندلاع الحروب الأهلية، وانهيار الحضارات.
كان أول تعرفي عليه في مناسبة منحي جائزة أفضل مقالة كتبت في الصحافة العربية، وكان تقليدا دشنه الراحل، وأتمنى أن يحيى من جديد، في تكريم الأدمغة النابهة في العالم العربي. فلا يعيش الكاتب في خوف ألا يطعم من جوع، أو يأمن من خوف.
سألته يومها وكان قد دعانا إلى بيروت لتسلم الجائزة، ما هي المقالة التي نالت تقدير اللجنة وأنت شخصيا، ولست ملزماً بالإجابة، ولكنني سوف أكون مسرورا لو علمت؟ قال: كانت مقالتك عن صراع ولدي آدم.
لقد كانت مقالة لا يقرؤها أحد إلا ويخرج منها بغير المشاعر التي دخلها، فعرفت أن الرجل يعيش في عتبة فكرية متقدمة مقدسة.
لقد وافقني أن نهضة العالم العربي يجب أن تطير إلى المستقبل بجناحين من العلم والسلم، وهو الشعار الذي أردده، وكنا نحن الاثنين على وشك دخول مشروع فكري مشترك آخر، وكان حريصا جدا على وضع تفسير عصري للقرآن بالصوت والصورة. ما يشبه فكرة اللوغاريتم القرآني، أو الكوانتوم القرآني، أو البنية الموضوعية، أو ما سماها جودت سعيد الأجنة القرآنية أو الآيات المفتاحية.
والرجل كان مستعدا للمشروع، ولكن الطب ما زال يعيقني عن الانطلاق بهذا المشروع المأمول.
أما موضوع المرأة فهو أبو البنات كما هو الحال معي، وكان في نهاية العام الفائت في بيروت يخبرني أنه سيزوج إحدى كريماته، بنفس الوقت شكا لي أنه تعرض لجراحة من سرطان في الرئة، ولكنه يخضع للعلاج وهو في أحسن حال. فعرفت أن المنية دنت، والطب يبقى عاجزا في أضيق الهامش، وأنا طبيب جراح أعي ما أقول. والطب حاليا بعد كشف مرض الإيدز والكود الوراثي، في فهم آليات الحياة والموت، يطمح أن يمد عمر الإنسان، وأن يقضي على السرطان وأنواعه، كما فعل مع الجراثيم على يد "كوخ" و"باستور".
لقد ارتبط عندي في الذاكرة وعلى نحو متقارب، موت صديق فكري أبو قسورة في شتاء 2006، وهو الذي كان يحب أن يسمي نفسه عبدالله الحر، مع موت زوجتي ليلى سعيد داعية اللاعنف، في خريف 2005، وأنا أرمق في صقيع كندا موت الطبيعة، فأتذكر رحيل من نحب مهما تعلقنا بهم، فلا تبقى إلا شظايا من الذكريات، وهكذا الحياة، التي خلقها القدير في قوة وروعة وجمال ليجعلها بعد حين غثاء أحوى...