اعتقال مخططي الانقلاب العسكري، ونزول قوات الجيش إلى الشوارع، ومطالبة الجموع الهائجة بتنحي الرئيسة، فضلا عن انخراط الجنود ونواب البرلمان في تحالفات معقدة في انتظار ما ستؤول إليه الأمور وفي أي اتجاه ستهب الرياح... هذه المشاهد كلها باتت مألوفة على الساحة السياسة الفلبينية، إلا أنها في نظر الخبراء المحليين والدوليين ليست سوى ضرب من العبث الذي ابتليت به الفلبين طيلة العقود الماضية. آخر فصول المشهد الفلبيني جرت أطواره يوم الجمعة الماضي بإعلان الرئيسة جلوريا أرويو حالة الطوارئ ومنع المظاهرات في الشوارع كرد على المحاولة الانقلابية الفاشلة التي استهدفت الإطاحة بها. وفي اليوم التالي داهمت الشرطة إحدى الصحف المعارضة في مانيلا، كما تم توقيف العديد من الأشخاص لاستجوابهم حول الأحداث الأخيرة بمن فيهم نائب برلماني ينتمي إلى "اليسار"، وقائد سابق للشرطة. كما نقلت وكالة الأنباء رويترز عن مسؤولين عسكريين كبار أن العشرات من الضباط الشباب ينتظرون دورهم لتسليم أنفسهم للسلطات قبل اعتقالهم من قبل الشرطة.
وتندرج هذه الأحداث في إطار عملية طويلة من الاضطرابات السياسية التي عطلت التنمية الاقتصادية والسياسية للبلد على مدى العقدين الماضيين. واللافت أن تلك الأحداث تزامنت مع إحياء الفلبين يوم السبت الماضي للذكرى العشرين لإحدى اللحظات الساطعة في سماء البلاد عندما أدت محاولة انقلابية فاشلة إلى قدح شرارة ثورة شعبية تعرف "بقوة الشعب" وأطاحت بالرئيس السابق فيرديناند ماركوس. ومنذ تلك اللحظة والبلاد تحاول بعناد تكرار تلك الثورة ما تسبب في إشاعة جو من عدم الاستقرار تخللته الكثير من الإشاعات حول انقلابات عسكرية وأخرى حقيقية لكنها فاشلة على أمل أن تؤدي إلى اندلاع نفس ثورة "قوة الشعب". لكن بعد المحاولات المتكررة لاستنساخ الثورة، وبعد فشل الثورة الأولى في تحقيق تغيير سياسي حقيقي في البلاد بدأ اليأس يدب في نفوس الفلبينيين بعدما تحولت الرومانسية السياسية إلى خيبة أمل مقيمة لدى أفراد الشعب. "شيلا كورونيل"، صحفية بارزة في الفلبين تعبر عن هذا الإحباط قائلة "لم أعد ملتزمة وجدانياً بما يحصل، لأن ذلك يستثير غضبي".
ويذكر أن "كورازون أكينو" التي قادت الانتفاضة الشعبية، أو الثورة الشعبية الأولى سنة 1986 لتخلف الرئيس ماركوس خرجت هي الأخرى إلى الشارع خلال الأحداث الأخيرة مطالبة بعزل الرئيسة الحالية. وفي نظر العديدين تشكل مشاركة "أكينو" في المظاهرات مفارقة كبرى إذ بينما هي مرتبطة في الأذهان بإرساء الديمقراطية في البلاد بعد الإطاحة بماركوس وتكريسها لمبدأ الانتقال السلمي للسلطة تقود اليوم حملة لإسقاط رئيسة منتخبة. وليست هذه المرة الأولى التي تزج "أكينو" نفسها في أتون المعترك السياسي حيث سبق لها أن وقفت في وجه الرئيس فيدل راموس وحالت دون تغييره للدستور في 1998 للبقاء أطول في السلطة. كما لعبت دورا رئيسيا في طرد الرئيس جوزيف إسترادا من السلطة سنة 2001 فيما بات يعرف "بثورة الشعب الثانية". وهاهي اليوم تواصل انخراطها في الخضم السياسي الفلبيني بتحديها للرئيسة جلوريا أرويو في الشارع مستغلة تدني شعبيتها التي وصلت إلى أدنى مستوياتها في تاريخ البلاد، فضلاً عن اتهامها بتزوير انتخابات 2004. وتصر "أكينو" على استقالة الرئيسة لإرجاع الشرعية مجدداً إلى المؤسسة الرئاسية، رغم أنها ليست متأكدة مما سيتلو تلك الخطوة.
وإذا كانت "أكينو" تنادي باستقالة الرئيسة دون استشراف واضح للمستقبل، فإن استقالة الرئيسة ستؤدي حتما إلى اختلال توازن البلد مجددا وزعزعة استقراره السياسي. وعلى الرغم من شعبية "أورويو" المتدنية، فشلت "أكينو" في تعبئة الجماهير ضدها كما فعلت في الماضي. ومهما بذلت من جهد لاستنساخ ثورة الشعب الأولى، فإن اللحظة الراهنة تختلف كثيرا عن 1986 عندما كانت الراهبات يجلسن في الشوارع لإعاقة تقدم الدبابات، وعندما هب الشعب للإطاحة بالرئيس في ثورة عارمة. أما اليوم فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته وكالة "بولس آسيا" في شهر يناير الماضي أن فقط 36% من الفلبينيين يؤيدون ما جرى سنة 1986. كما أفاد استطلاع آخر أجرته نفس الوكالة أن ربع الفلبينيين تقريبا يصفون وضع بلادهم "بالميئوس منه"، فضلا عن إبداء ثلث الشعب رغبته في الهجرة إن أتيحت له الفرصة. هذا ولا تنظر النخبة في الفلبين بعين الرضا لما يجري في البلاد، حيث يعتقد المعلق الصحفي "أمادو دورونيلا"، الذي كان أحد مؤيدي ثورة الشعب الأولى، أن "ما يجري حاليا يساهم في زعزعة الاستقرار السياسي في البلاد، كما يضعف المؤسسات الدستورية وينسف العملية الديمقراطية".
وفي نفس السياق يقول الباحث في العلوم السياسية "مانويل كويزون" بأن أحداث 1986 تركت الفلبينيين في وضع ملتبس بين حقهم الديمقراطي في انتخاب رئيس لبلادهم، وبين القوة التي يملكونها لإسقاط الرئيس المنتخب. والنتيجة المنطقية هي إفراغ الديمقراطية من مضامينها الحقيقية واستغلالها لحرمان البلد من الاستقرار السياسي. "ديفيد تيمبرمان"، ال