حتى لو افترضنا أنه كانت هناك في أي وقت أضواء في قاعة المحكمة المرتجلة، التي يحاكم فيها "أسد الله سرواري" بتهم يمكن أن تكلفه حياته، فإن هذه الأضواء انطفأت. وكانت القاعة باردة ومزدحمة، يختلط في جوها بخار الماء الناتج عن تنفس المتهم والمُتهِمين مكوناً ما يشبه السحابة الرمادية الشاحبة.
ويقول "عبيد الله المجددي" البالغ من العمر 75، ملوحاً بإصبعه في الهواء وقد تهدجت نبرات صوته:"لقد مضى علينا 27 عاماً دون أن نعرف أين تم دفن إخواننا وأعمامنا وآبائنا وباقي أقاربنا إننا نريد أن نعرف مصيرهم".
وهذه المحاكمة التي تعد أول محاكمة لجرائم الحرب في أفغانستان، شهدت دعاوى مؤثرة من الشهود، وقائمة طويلة من التهم ضد "سرواري" وهو رئيس استخبارات من العهد الشيوعي، متهم بإصدار أوامر بإعدام أشخاص في أواخر السبعينيات. وعلى الرغم من تلك الاتهامات، فإن أحداً من الذين شهدوا في تلك القضية لم يؤكد أنه قد شاهد بعينه "سرواري" وهو يرتكب جريمة من الجرائم المتهم بارتكابها.
ونقص الأدلة يمثل مشكلة من ضمن المشكلات التي ظهرت عندما قامت أفغانستان بمحاولات لمواجهة ماضيها الملطخ بالعنف، من خلال إجراء أول محاكمة لجرائم الحرب بعد نصف قرن من الصراع الذي أدى إلى مصرع مليون شخص على الأقل. حتى وقت قريب، كانت أفغانستان تبدو أكثر تصميماً على دفن ماضيها منها على إحيائه من خلال تحقيقات ومحاكمات، قد تؤدي إلى تفجير الأوضاع المتوترة.
ويمكن القول إن قضية "سرواري" قد تحولت إلى مهزلة. فالمتهم المسجون منذ 14 عاماً يواجه صعوبة في الحصول على محام حيث يتعرض المحامون لمحاولات لإقناعهم بعدم المرافعة نيابة عنه، كما أن الأدلة التي يقدمها ممثلو الادعاء والمتهمون ضئيلة.
ويقول ناشطو حقوق الإنسان والمراقبون الدوليون إن المشكلات التي تواجهها المحكمة تمثل أعراضاً لنظام قضائي غير متطور، وفاسد، ومسيَّس إلى حد كبير، ويفتقر للمقومات الأساسية للعمل.
حول هذه النقطة تقول "باتريشيا جوسمان"، مدير مشروع العدالة لأفغانستان وهي مجموعة دولية تعمل من أجل الدعوة لمبدأ المساءلة:"هذه المحاكمة معيبة من حيث الجوهر إذ ليس هناك أدنى اهتمام بالحقيقة كما أن المحاكمة ليست عادلة لا للمتهم ولا للضحايا".
ولكن المخاطر المحيطة بالموضوع برمته هائلة، لأن محاكمة "سرواري" يمكن أن تعتبر سابقة لقضايا جرائم الحرب المستقبلية في أفغانستان.. وهي دولة أفرزت فيها سنوات الحرب الأهلية والاضطرابات والقلاقل فظائع لا حصر لها، يمكن أن تؤدي إلى تقديم المئات من قادة المليشيات السابقين إلى المحاكمة.
والمسؤولون الأفغان ومؤيدوهم الغربيون، وخصوصاً في الولايات المتحدة يشعرون بأنه لا زال من المبكر جداً نكء تلك الجراح التي لم تندمل بعد. وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي قد أظهرت أن معظم الأفغان يريدون تقديم المنتهكين إلى العدالة، فإن المسؤولين يرون أن السلام يجب أن يأتي قبل العدالة في ديمقراطية وليدة ذات حكومة ضعيفة توجد فيها مليشيات مدججة بالسلاح وانقسامات عرقية وأيديولوجية.
أما الآن، ومع وجود المتمردين في المناطق الريفية، ووجود مهربي المخدرات والرجال الأقوياء الإقليميين، فإن البعض يتساءل عما إذا كان تأجيل أفغانستان لحسابها مع الماضي، يمكن أن يؤدي إلى تقويض فرصتها لإقامة مستقبل من نوع مختلف.
في ديسمبر الماضي وافق مجلس الوزراء الأفغاني على تدشين عملية للبحث عن الحقيقة، وعلى استراتيجية لإحضار مجرمي الحرب أمام العدالة، ولكن الخطة تفتقر إلى التفاصيل من ناحية كما أنه ليس معروفاً ما إذا كان سيتم تنفيذها أم لا.
ويذكر في هذا السياق أن هناك دولا أخرى مثل جنوب أفريقيا وتشيلي قد مرت بتجربة مماثلة، ولكن التحديات في التجربة الأفغانية قد تكون أكثر تعقيداً، لأن الدولة قد عانت من ثلاثة صراعات خلال الفترة الواقعة ما بين عامي 1978 و2001، سواء خلال الحقبة الشيوعية، أم خلال الاحتلال السوفييتي، أم الحرب الأهلية بين المليشيات الإسلامية المعروفة بالمجاهدين، أو حكم نظام "طالبان" الإسلامي. وفي كل حالة من تلك الحالات، كان الحد الفاصل بين القامع والمقموع مشوشاً.
ومشكلات أفغانستان لا تتعلق بالماضي فقط، ولكن الكثيرين من المتهمين بقصف المدن بالمدافع، وتعذيب الخصوم، وترويع السكان، استطاعوا البقاء في مناصب السلطة والنفوذ. فالبرلمان الجديد الذي انتخب في شهر سبتمبر الماضي يضم زعماء من كل مجموعة تقريباً من المجموعات المتهمة بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق.
وسرواري -بعد أن أعطي فرصة للدفاع عن نفسه- قال إن آخرين في السلطة هم الذين ارتكبوا الجرائم العديدة المنسوبة إليه كما قال في أخر إفادة أدلى بها إن المحامي قد ترك المحاكمة مما دعا القاضي لإعطائه المزيد من الوقت لإعداد دفاعه.
من عدة نواحٍ، تبدو قضية "سرواري" أخف من القضايا التي يمكن أن تتبعها. فهو في السجن، كما أن الشيوعيين قد أدينوا منذ وقت طويل، في حين أن زعماء المجاهدين الذين هزموا القوات السوفييتية، ثم قاموا بعد ذلك