لم يكن يدور في خلد "لي داتونج" أنه في تمام الساعة الخامسة بعد الظهر الموافق للرابع والعشرين من الشهر الجاري سيفقد مكانته وينزل إلى الحضيض. و"داتونج" لمن لا يعرفه هو أحد قدماء المتظاهرين في ساحة "تيان آمين" الشهيرة، وأحد الصحفيين المناضلين القلائل الذين ما زال يسمح لهم بالعمل في الصين. لكن بحلول ذلك التاريخ أبلغته السلطات أن مجلته الأسبوعية "فريزينج بوينت" التي يشرف على تحريرها قد تعرضت للإغلاق. والسبب واضح لا يحتاج إلى بحث حيث نشر مقالا مطولا يفند فيه الرواية الرسمية حول ما يعرف في الصين بـ"ثورة بوكسر" سنة 1900، وهي جماعة دينية متشددة تتكون من المزارعين قامت بقتل 230 أجنبيا في أحد أكثر مظاهر معاداة الأجانب مأساوية. وقد نشر "لي داتونج" المقال متسائلا لماذا يتم تعليم طلاب المدارس في الصين المعاصرة الاحتفاء بـ"ثورة بوكسر" علما بأنها تشكل مثالا لا يحتذى في معاداة الأجانب والتنكيل بهم. ورغم أن مجلة "فريزينج بوينت" ستستأنف نشاطها مجددا في بداية شهر مارس المقبل بعد موجة غير مألوفة من الاحتجاجات، إلا أن ما جرى يؤشر على انطلاق حملة واسعة من الرقابة على وسائل الإعلام لا تجدي معها معارضة أو احتجاج.
وعلى مدى السنتين المنصرمتين دأبت السلطات الصينية على قمع كافة المنابر الإعلامية تقريبا من خلال الاجتماعات الأيديولوجية المغلقة التي يتداول فيها أمر الصحافة، أو من خلال المراقبة اللصيقة لما يجري في غرف التحرير. ويذكر أن الحرب التي تشنها الصين حاليا على الأفكار الليبرالية بدأت تنعكس سلبا على صورتها في العالم. فطيلة عقد من الزمن سوقت الصين نفسها على أنها معجزة اقتصادية ذات مهارات استثنائية في مجالي الصناعة والتصدير، فضلا عن براعتها في تطوير بنيتها التحتية، وتحولها إلى مصدر رئيسي للاحتياطات المالية. كما استطاعت الصين أيضا المناورة في ملف حقوق الإنسان مسلطة الضوء فقط على الجوانب الإيجابية باعتبارها مجتمعا تقليديا بدأ يأخذ مكانته بكل ثقة على الصعيد العالمي. وقد تزامن فوز بيكين بتنظيم الألعاب الأولمبية لسنة 2008 مع حملة اعتقالات عنيفة طالت المجموعة الدينية "فالون جونج"، حيث مازال العديد من أعضائها رهن الاعتقال.
وفي هذا السياق يقول جون كام، الرئيس السابق لغرفة التجارة الأميركية في هونج كونج "إن تراجع صورة الصين في أنظار المجتمع الدولي سيؤثر سلبا على قدرتها في تحقيق أهدافها على صعيد سياستها الخارجية، وليس مستبعدا أن تؤثر أيضا في قدرتها على تنظيم الألعاب الأولمبية المقبلة". لذا يتوقع جون كام أن يتضمن التقرير الذي ستصدره وزارة الخارجية الأميركية حول حقوق الإنسان في الصين في وقت لاحق نقدا لاذعا يفوق ما تضمنته التقارير التي صدرت في السنوات الأخيرة. ومن جانبه أكد أحد الأكاديميين في بيكين أن "الهدف من تنظيم الألعاب الأولمبية في الصين كان هو تشجيعها على تغيير وجهتها، لكن ما شهدناه في الشهور الأخيرة يمثل رجوعا إلى خط الحزب التقليدي الذي يمنع الجدال، ويعيق استكمال المسيرة الديمقراطية، حيث يظل الهدف الأوحد بقاء الحزب الشيوعي على رأس السلطة". ولم ينجُ حتى رجال الدين من التضييق، حيث تلقى رئيس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في هونج كونج جوزيف زين تحذيرا من السلطات الصينية يمنعه من المشاركة في حركات سياسية أو اجتماعية. وبطريقة فاجأت العديد من المراقبين انخرطت لجنة الدعاية داخل الحزب الشيوعي في حملة قمع شملت إنزال عقوبات سجنية طويلة ضد محرري المدونات الإلكترونية، وهو ما أعاد ملف حقوق الإنسان في الصين إلى الواجهة مجددا بعدما بدا واضحا تخلف بيكين في اعتناقها القيم الليبرالية التي أصبحت مسلمات راسخة لدى العديد من الشعوب.
ولم يكن غريبا أن تلفت التصرفات الصينية القامعة للحريات انتباه بعض الجهات الدولية التي نددت بالقمع والتضييق على الحريات كما شاهدنا في الأسبوع الماضي عندما انتقد أعضاء في الكونجرس الأميركي بعض مسؤولي شركات الإنترنت لتواطئهم مع الشرطة السرية الصينية. فقد اشتدت الحملة الصينية على الصحافة النشطة التي تفضح دعاية الحزب الشيوعي الحاكم لتمتد إلى محطات الراديو والتلفزيون بعد حجب موقع العمال الصينيين على الإنترنت، وهو الموقع الذي ينتقد السياسات الحكومية المرتبطة بحقوق العمال. وعندما سئل تشين، المسؤول الصيني في بلدية بيكين والعضو في لجنة الدعاية التابعة للحرب الشيوعي عن الأمر، نفى معرفته بأي شيء حول الموقع، رافضا الإدلاء بتعليق حول الموضوع. هذا وتحتل الصين المرتبة الأولى في العالم من حيث عدد الصحفيين المعتقلين في سجونها الذين وصلوا إلى 39 صحفيا. وفي هذا الصدد صرح مو تشاوبينج، محامي زاو يانج الباحث الذي يعمل مع "نيويورك تايمز" أن موكله الذي قبض عليه السنة الماضية ويواجه عقوبة تصل إلى عشر سنوات بتهمة "المس بأمن الدولة" سيمثل أمام المحكمة في شهر مارس المقبل.
ومن جانبها لعبت شركات الإنترنت الدولية دورا بارزا في القبض على الصحفيين الصينيين من خلال تعاونها مع المسؤ