تبعث تحذيرات واشنطن ووعيدها بعدم استبعاد إمكانية القيام بعمل عسكري ضد إيران على الاعتقاد بأن الأمر لا يتعلق فقط بضغوط يمارسها "المحافظون الجدد" وإسرائيل على إدارة بوش من أجل التحرك، وإنما قد يكون مؤشراً على أن مثل هذا العمل العسكري يجري التحضير له حالياً وبات احتمالاً وارداً. ولا شك أن المحللين الاستراتيجيين والمسؤولين الحكوميين السابقين، "المحافظين" و"الليبراليين" قد وصفوا العواقب الوخيمة التي ستنتج عن مثل هذا الهجوم، ورد إيران المحتمل عسكرياً واقتصادياً، والتأثيرات الكارثية لحرب جديدة على سياسة إدارة بوش نفسها، وعلى العلاقات الأميركية مع العالم الإسلامي، وعلى مستقبل الولايات المتحدة.
ولا شك أيضا أن أساليب الرد المتاحة للحكومة الإيرانية والتداعيات الدولية لمثل هذا العمل– ولاسيما في حال استعمال السلاح النووي- قد جرى تصورها وبحثها من قبل هيئة رفيعة المستوى للسياسة الخارجية بالعاصمة واشنطن. إلا أنه وبالرغم من ذلك، فالحكومة الحالية تؤمن إيماناً قوياً بأن الولايات المتحدة منيعة وقوية، وهو ما أظهره غزو العراق الذي لم يتم وراء ستار من التضليل فحسب، وإنما أيضا عبر حجج الإدارة وتوقعاتها الخاطئة. وهو ما يتجلى اليوم أيضاً في الإصرار المتواصل على تحويل العراق إلى قاعدة استراتيجية أميركية، مهما كان رأي العراقيين ورد فعلهم.
والأمر لا يتعلق بحكومة أميركية تبحث عن معلومات استخباراتية، أو تمارس ما يسميه المصرفيون والمحامون بالعمل المتقن اللازم، أوتتصرف بحيطة وحذر ينمان عن قلق ووعي بالعواقب المرتقبة على المديين القريب والبعيد. فهي تؤمن بأن القوة تنتصر في الأخير، ولذلك فاستغلال الإدارة المقصود للتعذيب، وانتهاك حقوق الإنسان، ولامراعاة الأعراف الدولية أمور يبدو أن الهدف منها هو أن تصبح الولايات المتحدة مهابة الجانب في العالم. إنها باختصار تعبر عن اقتناع الحكومة الأميركية بأن القوة هي كل شيء.
صحيح أن التشجيع على تصرف الجنود والمرتزقة بقسوة ومن دون شفقة في أفغانستان والعراق، واستعمال التعذيب، والاغتيالات المستهدفة لا تعد سابقة (في أي حرب)، ولكن أن تكون على هذاً النطاق، فهذا أمر جديد بالنسبة للجيش الأميركي. ويعتقد بعض المراقبين العسكريين أن السياسات العدائية لإدارة بوش تقتدي بالممارسات الإسرائيلية لأن الوضع الجيوسياسي لإسرائيل المحاط بالتهديدات يملي العمل الاستباقي وخرق القواعد.
ويبدو أن الاعتقاد الذي عبر عنه البيت الأبيض في ديسمبر 2004 بأن أميركا إمبراطورية اليوم، ولا تخضع للواقع، إنما "تخلق الواقع"، راسخ وقوي بين كبار صناع القرار، وذلك بالرغم من الأحداث المدمرة التي أعقبت ذلك. كما أن الإدارة الأميركية لم تنل من عزيمتها حقيقة أن سياسة إسرائيل القائمة على القوة في الأراضي الفلسطينية، التي احتلت في حرب 1967، قد أدت إلى تفاقم وتدهور الأوضاع الأمنية في الدولة العبرية بشكل متزايد على مدى العقود الأخيرة الماضية.
وعلى غرار إيديولوجيا "المحافظين الجدد"، مذهب يتبنى فكرة "الكارثة المؤقتة"، أي أنه ستكون ثمة جنة سياسية على الأرض، ولكنها لن تأتي إلا عبر الحروب والأحداث الكارثية. وهي في الواقع سمة تميز فكر الأنظمة الشمولية عموماً، وبهذا المعنى فإذا كان الهجوم على إيران سيؤدي إلى تفاقم خلاف أميركا مع العالم الإسلامي، فذاك أمر جيد لأنه يجعل الانتصار النهائي أمراً وشيكاً. وتلك أيضاً هي النظرة الدينية للعديد من البروتستانتيين الأصوليين المؤيدين للرئيس. إنهم يعتقدون بأن الأوقات الصعبة والحرب إنما هي في واقع الأمر أوقات جيدة، لأنها قد تم التنبؤ بها وهي ضرورية في نظرهم تمهيدا لـ"نهاية الزمن" وعودة المسيح.
وعودة إلى الموضوع الإيراني، فمن المحتمل أن يتم الهجوم على إيران، في حالة حدوثه، جواً عبر هجمات متواصلة تستهدف جميع المرافق النووية الإيرانية، وربما مراكز البحث والحكومة أيضاً (بالرغم من أن البعض يدافع عن فكرة تنفيذ هجوم محدود على المرافق الحيوية في عملية التطوير النووي، على افتراض أنها معلومة).
إلا أن المشكلة تكمن في أن الخبراء والمحللين الاستراتيجيين قد يوصون كذلك باحتلال أهم حقول إيران النفطية، والتي تقع في الجنوب بالقرب من منطقة البصرة في العراق وبالقرب من الكويت، على المجال الذي تطل منه إيران على الخليج. وهو ما يعني ضرورة خوض حرب برية، والتي مما لا شك أن الإيرانيين لن يرغبوا في أن تظل مقتصرة على تلك المنطقة، فالانتشار الأميركي في العراق والمنطقة عموماً يشكل أهدافاً مهمة وممكنة، على غرار المصالح الأميركية في أماكن أخرى.
وهذا بالضبط هو سبب تردد جماعة الرئيس بوش في شن هجوم على إيران، غير أن التجربة أظهرت أن الإدارة الأميركية تحمل نظرة إلى واقع الحرب واحتمالاتها مختلفة تماماً عن تلك التي يحملها العاديون من بني البشر، ولذلك فمن الصعوبة توقع قرارها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"