منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر وإلى اليوم, صار من دأب إدارة بوش كلما مرت بمأزق سياسي, اللعب بورقة الأمن القومي في وجه "الديمقراطيين"، ثم تحولت هذه الورقة إلى فكرة انتخابية لعام 2006, على يد "كارل روف" الذي لوح به في حديث له مؤخراً أمام اللجنة القومية للحزب "الجمهوري" بقوله "تواجه أميركا اليوم عدواً قاسياً لا يرحم. ولذلك فهي في أمس الحاجة إلى قائد أعلى للجيش وإلى كونجرس يتفهمان طبيعة التهديد القومي الذي نواجهه, ومدى خطورة اللحظة التاريخية التي تمر بها بلادنا. وفي حين يدرك الرئيس بوش والحزب الجمهوري هذه الحقيقة, فإن كثيراً من الديمقراطيين يجهلونها". ثم مضى "روف" مستطرداً في الحديث: "كما أن للجمهوريين رؤية لعالم ما بعد 11/9 في حين لا يزال الكثير من الديمقراطيين حبيسي رؤيتهم السابقة لتلك الهجمات. لا أعني بهذا أن افتقار الديمقراطيين لرؤية ما بعد 11/9 يمثل طعناً في وطنيتهم أو انتقاصاً لها بأي حال من الأحوال, غير أن غياب تلك الرؤية يضعهم في الموقف الخاطئ حتماً لا محالة".
وحين أعلق على هذا الحديث الذي أدلى به "كارل روف", فإن ما يشد انتباهي بشكل خاص, يكمن في عبارة "لا يمثل طعناً في وطنيتهم" لكونها الفكرة الأساسية التي حاول "روف" غرسها عبر هذا التصريح. ثم إن هذه العبارة نفسها تساعدني على فهم السبب الذي دفع "الديمقراطيين" إلى رد الاتهام بالليونة والتساهل إزاء الإرهاب –وهو الاتهام الموجه منهم عادة- إلى نحر بوش, ما أن كشفت الأنباء عن استحواذ شركة "موانئ دبي العالمية" على شركة "P &O" البريطانية التي كانت تتولى إدارة وتشغيل موانئ نيويورك ونيوجيرسي وبالتيمور ونيوأورليانز وميامي وفيلادلفيا. والمعلوم أن إدارة بوش هي الأكثر تمسكاً وإصراراً على إتمام هذه الصفقة, على الرغم من علمها بأن شركة دبي الإماراتية هي التي ستتولى إدارة وتشغيل الموانئ الأميركية المذكورة.
وللسبب ذاته بدأت أدرك سر هروب المزيد والمزيد من "الجمهوريين" من الإدارة الحالية. والمقصود هنا علم هؤلاء بأن بعض "الديمقراطيين" سيتقنون اللعب جيداً بهذه الورقة –تسليم الموانئ الأميركية للعرب- ضدهم إن هم لم يبتعدوا من الآن من إدارة بوش الحالية, في المعركة الانتخابية المقبلة. وكما نعلم فإن قانون اللعبة دائماً هو "أنك لن تحصد إلا ما تزرعه".
وعلى الرغم من أنني لا أحمل ذرة تعاطف واحدة مع الرئيس بوش في مأزقه السياسي الذي هو فيه الآن, فإنني لست ممن يزيدون نار العداء لهذه الصفقة اشتعالاً. ولذلك فإنني لا أتردد لحظة في القول إن بوش مصيب في موقفه المعلن من الصفقة التي يجب أن تستمر وتكتمل. وعلى الكونجرس أن يوجه جهوده واهتمامه إلى"وكالة الأمن القومي" وليس لإدارة وتشغيل الموانئ. والأهم من ذلك كله هو إن علينا كدولة ألا نمضي أي خطوة على طريق العداء العرقي للشعوب والدول الأخرى, إن كنا نريد لبلادنا حقاً أن تبقى صرحاً للانفتاح والتسامح والتعددية. فما أن نمضى خطوة واحدة في ذلك الاتجاه, حتى نجر معنا بقية العالم بأسره. وعندها سنكون قد بذرنا الريح, وما علينا إلا الاستعداد لحصد العاصفة!
ولو كانت هناك قضية أمنية جادة ذات صلة بصفقة الموانئ هذه, لما كنت قد ترددت برهة في الانضمام إلى زمرة النقاد والمعترضين. غير أن الحقيقة الواضحة أن كل ما يثار من مخاوف وهواجس أمنية إزاءها, إنما هو محض زيف وهراء, علاوة على ما يعتريه من وجه عنصري قبيح. والدليل على ذلك أن الكثير جداً من الموانئ الأميركية, تتولى إدارتها وتشغيلها شركات أجنبية. وستكون مهمة حراسة أمن الموانئ المذكورة كلها بيد قوات خفر السواحل كما كانت من قبل, في حين تواصل إدارة الجمارك مسؤولياتها عن تفتيش محتوى الحاويات الصادرة والواردة, وبالمثل تستمر العمالة الساحلية الأميركية على عهدها السابق في تعاملها مع البضائع البحرية. وكل الذي يبقى للشركة المشغلة للموانئ هو الإشراف على وصول ومغادرة السفن, فضلاً عن التأكد من أن تحميل شحناتها وتفريغها يتمان على النحو الأمثل وبالتكلفة المالية الأقل كما هو معروف عالمياً.
وكما قال لي زميلي "ديفيد إي. سانجر -نقلاً عن "ستيفن إي. فلاين" وهو جنرال وقائد عسكري متقاعد وخبير بأمن الموانئ بمجلس الأمن القومي- فإن أكثر ما يزعج في عالم اليوم هو الاعتداءات والهجمات التي يشنها المسلمون السنة على مساجد إخوتهم الشيعة في العراق, ونشر الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد في الصحف الدانمركية, وأعمال العنف والعنف المضاد التي يرتكبها المسلمون ضد المسيحيين والعكس في نيجيريا, علماً بأنها أزهقت أرواح الكثيرين من كلا الجانبين. يضاف إلى ذلك رفض بعض مهووسي الأمن القومي في إدارة بوش, إصدار تأشيرة دخول لعالم هندي كيمائي كبير, مخافة أن تشكل عبقريته الكيمائية خطراً أمنياً على الولايات المتحدة. والمؤسف أن هذا الإجراء كان في عشية زيارة بوش المرتقبة إلى الهند, الأمر الذي أحرج سفارتنا في نيودلهي ودعاها للاعتذار عما حدث!
خلاصة القول إن عالمنا ينجرف سريعاً جدا