يسود الموقف السياسي في الخرطوم في أيامنا هذه توتر في العلاقة بين حكومة السودان ومنظمة الأمم المتحدة، ويتمثل هذا التوتر فيما عرف وأعلن من موقف وزارة الخارجية السودانية حيال السيد "إيان برونك" مساعد الأمين العام للمنظمة الدولية ورئيس بعثتها في السودان.
لقد صعدت وزارة الخارجية من حدة تعاملها مع الممثل الدولي، فكان أن استدعاه وزير دولة بالوزارة وأبلغه إحتجاجاً قوياً على ما ترى حكومة السودان، أنه تدخل في شؤونها الداخلية ومساس بسيادة الحكومة على أرض السودان وشعبه، وأنهى الوزير السوداني اجتماعه الاحتجاجي بالسيد برونك بقوله "إننا لا نريد ولا نقبل أن نراك تقوم في بلادنا بدور مشابه لدور بول بريمر في العراق".
عدم رضا حكام الخرطوم، وبتحديد أكثر مندوبي "المؤتمر الوطني" في جهاز الحكم، على ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، يعود إلى وقت مضى، ذلك لأنه بحكم منصبه يقوم بمهمة إشراف للتأكد من أن اتفاقية "نيفاشا" يتم تنفيذها على الأرض. ومع تعدد مظاهر الإبطاء في التنفيذ، بل أحياناً اتخاذ سياسات منافية لروح الاتفاقية، فإن تعليقات الممثل الدولي كان طبيعياً أن تتخذ لوناً ناقداً، وإن كان بالأسلوب الدبلوماسي المعروف. أمّا الوضع الجديد الذي أشعل التوتر الحالي، فهو حديث "برونك" وتصريحاته التي تشير إلى توقع انتقال مهمة المراقبة والإشراف في دارفور من قوات الاتحاد الأفريقي إلى قوات تكون تابعة للأمم المتحدة، وهو أمر ترفضه الحكومة بشدة، لاسيما الوزراء الذين ينتمون لحزب "المؤتمر الوطني".
هذا الموقف المتشدد من حكومة السودان، لا يجد سنداً ولا تأييداً من الجهات ذات الصلة بالقضية؛ فالاتحاد الأفريقي اعترف بأنه عجز عن تنفيذ المهمة التي أوكلت له في دارفور، ولهذا فقد أعلن ممثلو الاتحاد الأفريقي في اجتماعات أبوجا أنهم بصدد تسليم المهام في دارفور لقوات تابعة للمنظمة الدولية، وأن تلك المهمة ستستغرق من ستة شهور إلى تسعة شهور في أقصاها. إن عجز القوات الأفريقية عن القيام بالمهمة يعود إلى ضعف تأهيلها لوجستياً، وإلى عدم قدرتها على الحركة السريعة في إقليم يعادل في مساحته القطر الفرنسي بأكمله. وكانت بعض التقديرات تقول إن قوات الاتحاد الأفريقي العاملة في دارفور تحتاج إلى نحو (17 مليون دولار) كل شهر، لتتمكن من أداء المهمة، وكان البعض يأمل في أن تبادر دول عربية لتغطية هذا المبلغ وتبقى القوات الأفريقية، ولا تكون هناك حاجة لاستبدالها ولكن الواضح أن شيئاً من ذلك لم يحدث.
الأمم المتحدة تدخلت في السودان بناءً على رغبته، وتلبية لدعوة منه، وكان لها دور مشارك في الوصول لاتفاقية نيفاشا ووقف الحرب في الجنوب. وترتب على هذا أن صار للمنظمة الدولية وجود واضح ليس في الجنوب وحده، ولكن كذلك في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. وهي الآن تستعد لإنشاء بث إذاعي في الخرطوم باسم المنظمة الدولية. وكان طبيعياً مع كل هذا أن تظل المنظمة الدولية تراقب ما يجري في دارفور يوماً بعد يوم وترفع تقاريرها لمجلس الأمن الدولي بانتظام.
وإذا أردنا أن نقرأ التوقعات بعد هذا الشد والجذب بين الحكومة والهيئة الدولية، فإن الأقرب إلى الحقيقة هو أن الأمم المتحدة ستتولى أمر الإشراف في دارفور للتأكد من تطبيق وقف إطلاق النار ولحماية المدنيين من قوات الجهتين المتصارعتين قوات الحكومة وقوات المتمردين، ولن يكون للحملة الأخيرة من معنى غير الدليل على أن حكومة السودان تعيش في شبه عزلة وأنها تتصرف بمفاهيم للسيادة وما إليها عفا عليها الزمن.