أسيل في الآونة الأخيرة الكثير من المداد حول موضوع نشر صحيفة دانمركية لرسوم مسيئة إلى نبي الإسلام وما تلا ذلك من أزمة عالمية عاصفة تخللتها أعمال عنف، ولقي فيها العديد من الأشخاص مصرعهم. وقد بات واضحا اليوم حجم الإساءة التي تسببت فيها تلك الصور بالنسبة لملايين المسلمين حول العالم، خصوصا بعد استمرارها في الظهور على صفحات الجرائد الغربية وباقي وسائل الإعلام ما أكد استهتار محرري الصحف الأوروبية غير المبرر بالمشاعر الدينية للمسلمين. وسعيا منها لتفسير موضوع الصور وتسليط الضوء على أسباب استفحال الأزمة وتفاقمها اقتصرت أغلب التحليلات على عناصر محدودة عجزت عن مقاربة الأزمة في ظل تشعب عناصرها وتشابكها ضمن دائرة ضيقة من الأفعال وردود الأفعال. لكن برجوعنا إلى الوراء وابتعادنا قليلا عن الخطاب العاطفي لفهم القضية بموضوعية، نكتشف سريعا أن الأزمة تتجاوز الاعتبارات الدينية، وتمتد إلى عوامل أخرى تتصل بما هو سياسي واجتماعي، وإعلامي أيضا.
انطلق الصحفيون غير المسلمين في الغرب من أن موضوع نشر الصور إنما يندرج في إطار حرية التعبير التي تكفلها الدساتير وتتيحها الثقافة المتجذرة في المجتمعات الغربية، بينما تبنى الصحفيون المسلمون نظرة مغايرة تعتبر ما جرى جزءا لا يتجزأ من قدسية الدين وحرمته، معتبرين أن الصور جاءت لتشكل محاولة متعمدة لإهانة المسلمين. وبالنسبة لفليمينج روز، المحرر الثقافي في صحيفة "يولاند بوستن" المسؤول عن نشر الرسوم المسيئة فقد أعلن أن ما حرك تصرفه كان الرغبة في الدفاع عن حرية التعبير لما أصبحت تتعرض له من هجوم وتهديد، ولما باتت تعانيه من أخطار وتضييق. والنتيجة أنه قرر خرق المحظورات وإطلاع الرأي العام على الصور غير آبه بالعواقب. وعندما طُلب منه لاحقا الاعتذار رفض ذلك بشدة مؤكدا أنها مسألة تتعلق بالديمقراطية والذود عن حياضها. وأكد أيضا أنه ما لم تستطع الصحافة ممارسة دورها النقدي بكل حرية فإن جوهر الديمقراطية ذاته في خطر. أما الصحفيون المسلمون فقد عكسوا من جهتهم نبض الشارع في بلدانهم وقاموا باستنكار نشر الصور التي تنتهك حرمة الدين.
وقد تأججت الأزمة أكثر عندما قرر بعض المحررين الأوروبيين إعادة نشر الرسوم في جرائدهم لإظهار تعاطفهم مع صحيفة "يولاند بوستن" ومؤازرتهم لها في محنتها. وبالرغم من النتائج السلبية لمثل هذا التصرف الذي صب المزيد من الزيت على النار، إلا أننا لن نفهم تصرف المحررين دون النظر إلى الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك والتي يأتي في مقدمتها التنافس التجاري بين المنابر الإعلامية المختلفة للرفع من حجم مبيعاتها في السوق، وهو ما دفعها إلى نشر الصور لإطلاع قرائها وحثهم على شراء الجريدة. وبإعادة نشر الصحف للصور بدواعٍ تجارية أظهرت الصحف الأوروبية أنها إما جاهلة بالتقاليد الإسلامية، أو أنها تدرك الأخطار لكنها قررت تجاهلها. وفيما كان هدف البعض استفزاز المسلمين، كانت أغلب الصحف تسعى إلى المنافسة التجارية ورفع حجم مبيعاتها لا غير. وإزاء هذا الوضع لم يكن أمام الإعلام في الدول الإسلامية سوى الاستمرار في التنديد بنشر الصور وتعميمها على الصحف الأوروبية. ومع تفاقم الأزمة واتساع دائرتها قرر القادة السياسيون في كلا الجانبين التدخل حيث رفعت حكومات الدول الإسلامية شكواها إلى الدول الأوروبية مطالبة إياها بالتدخل لوقف الإعلام الأوروبي عن نشر الرسوم ومعاقبة المحررين الذين قاموا بذلك. ولم تستسغ الدول الإسلامية الرد الذي جاء على لسان رئيس الوزراء الدانمركي، كما باقي السياسيين الأوروبيين بأنهم لا يستطيعون التدخل لأن الحكومات لا تسيطر على وسائل الإعلام.
وقد ذهل الرأي العام الأوروبي الذي شاهد الحشود الغاضبة وهي تنزل إلى الشوارع في الدول الإسلامية مهاجمة السفارات الأوروبية، إذ لم يتوقع أبدا أن يكون رد الفعل بهذه القوة واصفا ذلك العنف باللاعقلاني. ومع تصاعد وتيرة الاضطرابات دعا القادة السياسيون في كلا الجانبين إلى الاكتفاء بالتظاهر السلمي وعدم اللجوء إلى العنف وأعمال التخريب. أما في بعض البلدان مثل لبنان فقد تداخلت الاحتجاجات بالقضايا المحلية وأدت إلى تأجيج التوتر بين المسلمين والمسيحيين من جهة واللبنانيين والسوريين من جهة أخرى. هذا ولم تستثر الصور المسيئة في العراق سوى ردود فعل محدودة نظرا للمشاكل الداخلية الملحة التي يتخبط فيها العراقيون. ويشار إلى أن الأزمة الحالية ما كانت لتأخذ هذه الأبعاد الخطرة لولا تكنولوجيا الاتصالات المتطورة التي أذاعت الصور عبر العالم. فعلى سبيل المثال نشرت المجلة الأميركية في الستينيات من القرن المنصرم عددا خاصا عن الإسلام تضمن صورة للرسول محمد، ورغم أنها أثارت بعض الاحتجاجات، إلا أن القصة سرعان ما تلاشت وتوارت عن الأنظار. وإذا كانت قصة الصور التي نشرتها المجلة الأميركية مرت بسلام، فذلك راجع إلى بقائها محصورة في قراء المجلة الذين لا يتجاوزون الحدود الأميركية. أما اليوم ومع انتشار الفضائيات والإنترنت فقد أصبح من السهل انتقا