ما أن يحرك مثقف فرنسي يراعه ليكتب عن أميركا وشؤونها حتى يولد الكثير من الحساسية، خصوصا لدى الأميركيين الذين عادة ما ينتظرون في مثل هذه الحالات أن يطلق المثقف الفرنسي سهام النقد ضد الإمبراطورية الأميركية الجديدة وينكب على تفكيك -دائما على طريقة الفرنسيين- التصورات والمثل التي تنهض عليها الرؤية الأميركية للعالم ولنفسها. بيد أن المثقف الفرنسي برنار هنري ليفي الذي نعرض كتابه هذا الأسبوع تحت عنوان "الدوار الأميركي: رحلة حول أميركا على خطى توكفيل" يختلف عن ذلك النموذج التقليدي من المثقفين الفرنسيين الذين لا يرون في أميركا سوى مثالبها، ويستنكرون سياساتها الخارجية والغطرسة التي باتت ترمز إليها، فضلا عن أحادية تتجاوز في الكثير من الأحيان حدود اللياقة الدبلوماسية. وهكذا يبرز هنري ليفي كمثقف فرنسي يسبح عكس التيار السائد حيث بدأ حياته الفكرية كأحد أهم منتقدي الفكر الماركسي الذي كان يميز معظم المفكرين الفرنسيين خلال مرحلة الستينيات من القرن المنصرم. وقد حاز شهرة كبيرة ليس فقط كمثقف، بل أيضا كصحفي كتب عن العديد من القضايا كان أبرزها كتابه ما قبل الأخير عن مقتل الصحفي الأميركي دانيال بيرل في باكستان.
وقد تصادفت الشهرة التي يتمتع بها المؤلف في فرنسا، وربما أيضا مواقفه التي لا تختلف في جوهرها عن الأفكار الأميركية، خصوصا فيما يتعلق بميوله الليبرالية وانتقاده للأيديولوجيات الشمولية، مع رغبة الدورية الأميركية ذائعة الصيت "أتلانتيك مانثلي" في استقدام أحد المثقفين الفرنسيين للقيام بجولة حول أميركا ورصدها بعيون أجنبية ثم توثيق ذلك لينشر في سلسلة مقالات على صفحات الدورية. وبالفعل انتقل المؤلف إلى الولايات المتحدة وطاف البلاد شرقا وغربا على خطى سلفه أليكس توكفيل الذي قدم إلى أميركا في القرن التاسع عشر لمعاينة نظام السجون في الولايات المتحدة فتاه في الدروب المتشعبة للحياة السياسية الأميركية التي راح يصفها باقتدار كبير. أما بالنسبة لبرنار هنري ليفي فقد جاب أميركا من الشرق إلى الغرب في محاولة منه لرصد التحولات التي تشهدها البلاد والنقاش السياسي الدائر بين نخبها السياسية والثقافية. وقد تزامنت رحلته التي قام بها سنة 2004 مع احتدام الجدل داخل الولايات المتحدة حول الحرب في العراق، فضلا عن مصادفته لموسم الانتخابات الرئاسية. وبالرغم من أن زيارة المؤلف سبقت كارثة "كاترينا" التي ضربت نيورأورليانز، إلا أنه رصد هشاشة النسيج الاجتماعي في بعض المناطق الأميركية بسبب انكفاء الجماعات العرقية المختلفة على نفسها وانعزالها عن بعضها بعضاً. فالسود يعيشون في أحياء خاصة بهم، والبيض الأغنياء يتوزعون على الضواحي الراقية للمدن في غياب انفتاح متبادل.
وبخلاف مواطنيه من الفرنسيين الذين عادة ما يطلقون العنان لنقدهم الموجه إلى نمط الحياة الأميركي المبني على الاستهلاك، أو لسياستها الخارجية التي تنذر بزعزعة الاستقرار العالمي في سعيها إلى تحقيق نبوءات إمبراطورية يشير برنار ليفي إلى الخير الكامن في أميركا، لاسيما لدى مواطنيها من خلال ما رصده لديهم من تفاؤل لا يخفي المؤلف إعجابه به. كما يختلف المؤلف عن المفكرين السابقين الذين تناولوا بعض القضايا الأميركية بالبحث والتحليل بعدم حصره لاهتمامه على الجانب النظري، أو الأكاديمي. وفي هذا الإطار حرص هنري ليفي على لقاء الأميركيين من عامة الشعب، كما استجوب العديد من نجوم هوليود أثناء مروره بمدينة لوس أنجلوس. وفي بعض الأحيان يغوص في التفاصيل الدقيقة مثل لقائه بالممثلة الأميركية شارون ستون ووصفه لطريقة جلوسها على المقعد. لكنه يلتقي أيضا أثناء رحلته بالسياسيين الأميركيين بدءا من جون كيري وهيلاري كلينتون، وليس انتهاء برموز المحافظين الجدد مثل ريتشارد بيرل وبيل كريستول حيث جمعته معهما نقاشات حول مجمل المواضيع المحلية داخل الولايات المتحدة، بالإضافة إلى القضايا الدولية. وباحتكاكه مع المجتمع الأميركي من خلال زيارته للعديد من المدن يبرز المؤلف التناقضات الثاوية في عمق الوعي الأميركي والتي تظهر تارة من خلال المثل العليا والمحافظة الأخلاقية التي يرجعها المؤلف إلى تركة المستوطنين البروتستانت الأوائل الذين هاجروا إلى العالم الجديد في بداية القرن السابع عشر، وتارة أخرى تظهر من خلال أيديولوجية المحافظين الجدد ورغبتهم في إرساء الهيمنة الأميركية على العالم عبر مدخل نشر الديمقراطية والحرية.
ورغم انتقاد المؤلف للرؤية الأميركية للعالم، إلا أنه يقر بأنه لا شيء شخصي ينفره من المفكرين المحسوبين على تيار المحافظين الجدد، وبأنه يفهم المقدمات المثالية التي ينطلقون منها. ولأن المؤلف ليبرالي الهوى ولا يخفي تقديره لنمط الحياة الأميركي، فقد أنجز رحلته بكل سلاسة دون تعقيدات، كما أن لقاءاته المتعددة مع الشخصيات الأميركية البارزة لاقت الترحيب ما دام قد عرف التوجه العام لبرنار هنري ليفي الذي لا يبيت انتقادا مبطنا للأسس الأخلاقية، أو النموذج الاقتصادي الذي تقوم عليه