بلاشك، فإن نشر الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، أغضبت ملياراً وثلاثمائة مليون نسمة في العالم، ومناصريهم أيضاً ممن لا يجيزون التطاول على الأديان ورموزها أيا كانت تلك الأديان. ومن حق المسلمين، الذين شعروا بالإهانة والاستخفاف بأكرم خلق الله، أن يعبّروا عن غضبهم العارم، ويوصلوا صوتهم إلى العالم حتى لا تتكرر تلك الإساءة الكبيرة، ويعرف الذين يتغنون بالحريات والإباحيات بأن لكل حرية حدوداً... وأن التجاوز على حريات الآخرين ليس من الحرية.
من هنا، فإن الدعوات العاقلة التي خرجت من بعض البلدان العربية لمعالجة المشكلة مع الدانمرك، يجب أن تلقى التشجيع والتأييد، وحتى لا تبدأ معارك جديدة تسهم في صراع الحضارات، في الوقت الذي تتنادى فيه الدول لتبني مشاريع فاعلة نحو حوار الحضارات.
نعم حصل هنالك خطأ، وقد يكون مقصوداً ضد المسلمين، وتوجد حالات يتوجب فيها الاعتذار. ولو لم يتذرع أصحاب الصحيفة بالحرية وقاموا بالاعتذار عن الخطأ المشين، لما حصل ما حصل. لكن إعادة نشر الصور المسيئة مرة أخرى، وقيام صحف وتلفزيونات أوروبية وعربية بنشر تلك الصور، بل وقيام وزير إيطالي بارتداء قميص طبعت عليه تلك الصور، كل ذلك لا يندرج تحت الحرية، إن لم نصنّفه على أنه تحدٍ لمشاعر المسلمين، أو عبث سلوكي يُقصد به تأجيج الحرب وتعقيد حوار الحضارات.
ولقد دخلت الهيئات الأوروبية على الخط، وقام ممثلو أبرز المجموعات السياسية في البرلمان الأوروبي بالدعوة إلى ربط الحرية بالمسؤولية، منددين في الوقت نفسه بالردود العنيفة المترتبة على نشر تلك الرسوم. لكن بعض ممثلي الهيئات الأوروبية تجاهل سبب المشكلة وركز على ردود الأفعال، ومنهم إمام المشرعين الأوروبيين الذي أبدى إدانة واضحة وقاسية لما تعرّض له مكتب المفوضية في غزة والبعثات في عدد من الدول، مشيراً إلى هدف هذه المؤسسات وهو تقديم المنافع للناس! ولكنه لم يشر إلى ضرورة عدم الاقتراب من حريات الآخرين في أديانهم ورموزهم الدينية. لكن البيان بعدم المبالغة في ممارسة حرية التعبير بالتحريض على الحقد الديني أو بنشر تصريحات عنصرية تدعو إلى كراهية الأجانب.
أما دعوة رئيس الوزراء الدانمركي بـ"تهدئة الخواطر" و"إعادة الحوار مع العالم الإسلامي إلى الطريق البناء"، فهي بلاشك محل تقدير، وعلى المسلمين التركيز على الجوانب الإيجابية في هذه القضية.
وإذا كانت العلاقات بين أوروبا والعالم الإسلامي ظلت وطيدة وقائمة على الشراكة منذ زمن طويل، فإن استثمار دعوة سفير الاتحاد الأوروبي لدى المملكة العربية السعودية، إلى المحافظة على العلاقات والمصالح والصداقات التي تربط الطرفين، وتفادي الوضع الناتج عن نشر تلك الرسوم، نقول استثمار تلك المواقف ممكن، تماماً مع الموقف الفرنسي الرسمي، وموقف الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا، وكذلك آراء المسلمين المعتدلين الذين قبلوا اعتذار الصحيفة، ونعتقد أن قيام منظمة المؤتمر الإسلامي بصياغة مشروع قرار دولي يمنع الإساءة إلى الأديان سيكون خير علاج للظاهرة.
لكن حرق السفارات والسيارات، ومضايقة الأجانب، والمقاطعة، والهجوم الإعلامي على كل ما هو غربي... نعتقده يأتي من باب ردة الفعل العنيفة التي لا تحقق شيئاً إيجابياً، إن لم تأخذ الأمور إلى التعقيد.
إن إرساء قيم التسامح والعدالة والاعتراف بالآخر، هي السبيل الأمثل نحو تفاهم ثقافي بين الأمم والأفراد. وإن كسب المؤيدين لهذه الثقافة، لا يأتي عبر المنع والكراهية وأصوات الغوغاء. ونحن لا نختلف مع القائلين إن لكل شعب أو أمة تقاليدها وقيمها، وإن ما يأتي في باب المحرمات -لدى شعب من الشعوب- ليس بالضرورة يدخل في الباب نفسه لدى الشعوب الأخرى. ولا يجوز هنا تحوير المقاصد وإثارة الناس، بأن نشر الصور يدخل ضمن كراهية الأوروبيين ضد المسلمين، على اعتبار صكوك تاريخية إبان الحملات الصليبية، ناهيك عن بعض من يدّعون الدفاع عن الإسلام ويقومون باتخاذ مواقف متعارضة، حيث يتحدث بعض من يقيم في الدانمرك من المسلمين، بأنه ضد المقاطعة الإسلامية للدانمرك، ثم يتحدث من قناة عربية داعياً إلى زيادة رقعة المقاطعة!
هؤلاء هم نمط المندسين في الصف الإسلامي والذين تتبناهم أوروبا وتوفر لهم سبل العيش، لكنهم -في الوقت ذاته- يحقدون عليها، ويلعبون على عدة أوتار دون وازع من دين أو أخلاق وهم أشدّ على الأمة الإسلامية من مصوري ورسامي الكاريكاتير.
إن المسلمين محاطون بدول وثقافات أجنبية، وليس بمقدورهم بتر عالمهم الإسلامي ونقله إلى كوكب آخر يعيشون فيه بسلام، فإن مقاطعة الآخرين ليست من أسلحة العصر الحديث، تماماً كما هو حرق السفارات والتعرّض للأشخاص. كما أن إشاعة البغضاء -عبر الإعلام- وخلط الأوراق، لا يصب في مصلحة الأمة الإسلامية!
لذا، فإن عقلنة الإعلام في العالم الإسلامي من المهام الحضارية للدولة الحديثة، ولابد من إيجاد لغة تخاطب حضارية مع الآخر، وإن كنا -كمسلمين- نتألم من موقف الجريدة الدان