تستطيع حركة "حماس" أن تخرج من دائرة رد الفعل التي تدور فيها منذ فوزها بالغالبية في الانتخابات الفلسطينية، وأن تنتزع زمام المبادرة إذا سارعت إلى إعلان خطوات تنفيذية لبرنامج (الإصلاح والتغيير) الذي طرحته خلال حملتها الانتخابية. عندئذ سيكون في إمكانها أن تفرض قواعد جديدة للعبة على من استقبلوها بسيل من المطالب والشروط مصحوبة باتهامات ومقترنة بتشكيك في نواياها أو في قدرتها على النهوض بمسؤوليات السلطة. وفي هذه الحال قد ينتقل من يحاولون محاصرتها الآن إلى موقع رد الفعل.
ولكن يقتضي ذلك أن تحافظ الحركة على الروح التي تميزت بها من خلال الحملة الانتخابية، عندما ظهرت أقرب إلى حركة إصلاحية منها إلى جماعة راديكالية. وكانت أسبوعية "منبر الإصلاح" التي أصدرتها على مدى عدة شهور قبل الانتخابات هي الأكثر تعبيراً عن هذه الروح. فقد خاطبت عقل الناخب أكثر مما سعت إلى إثارة عواطفه. وقدم بعض قادة "حماس" عبرها خطاباً سياسياً جديداً ينسجم مع شعار (الإصلاح والتغيير). ومن ذلك مثلاً ما قاله د. محمود الزهار، في حوار معه، أن "حماس" تخوض الانتخابات لنيل الشرعية الدستورية على حد تعبيره، وحتى لا يظل العالم يتهمها بأنها حركة إرهابية حسب تعبيره هو أيضاً.
هذا الخطاب المبشر اعتقد البعض أنه صُنع خصيصاً من أجل الانتخابات، ورأى بعض آخر أنه مثل كلام الليل الذي يذوب في ضوء النهار. غير أنه لا يصح الاستهانة بأثر حملة انتخابية طويلة عريضة خاضتها هذه الحركة بجدية شديدة في أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة، وتواصلت خلالها مع الفلسطيني البسيط كما لم يحدث من قبل. والمفترض -منطقياً- أن يكون كوادر الحركة قد لمسوا عن قرب حالة هذا الفلسطيني الذي تعاطوا معه على مدى ما يقرب من 20 عاماً كما لو أنه إنسان ذو بعد واحد يتعلق بالصراع مع العدو. اختزلت الحركة الإنسان الفلسطيني في قضية وطن مسلوب "من البحر إلى النهر" ومقاومة إسلامية ضد العدو الذي يحتل الأرض.
والأكيد أن الفلسطيني الصامد على أرضه مهموم بقضية وطنه، يعيشها يوماً وراء يوم على نحو يجعل حياته جزءاً منها. ولكنه في الوقت نفسه إنسان مثله مثل البشر جميعاً، يعيش على الأرض وليس فقط من أجل الأرض. فهناك الأب المسؤول عن عائلة قد يكون فيها أطفال يتألم لجوعهم إذا جاعوا وهو عاطل عن العمل لا مورد رزق له، ويحزن لضياع من لا يتعلم منهم. وهناك الأم التي يضنيها عجزها عن إطعام أطفال صغار وتقديم الحليب لهم.
هذا الفلسطيني الإنسان عرفته "حماس" خلال الحملة الانتخابية كما لم تعرفه من قبل، مثلما عرفنا نحن خارج فلسطين في معاناته بعضاً من الركائز الاجتماعية لفوزها. نقلت إحدى وكالات الأنباء عن "أم إبراهيم" في مخيم رفح أنها انتخبت "حماس" لأنها "ستساعدنا في تأمين عمل لزوجي... وهم عندهم جامعة، ووعدونا أن يدخلوا الأولاد إليها". امرأة أخرى معجونة بتراب فلسطين فسرت خروجها لانتخاب "حماس" قائلة: "بيتنا تهدم في حي البرازيل، ونأمل أن تساعدنا حماس لنبنيه". أما الشبان الذين أعطوا أصواتهم لحركة "حماس" فبعضهم فاض به الكيل من فساد بعض قادة حركة "فتح" المترفين، والبعض الآخر جربوا حكومات هذه الحركة لسنوات طويلة وباتوا مقتنعين بأنه لا أمل يرجى منها.
لم يخرج هؤلاء لانتخاب "حماس" لأنها تريد تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وإنما لأنهم يريدون تحرير أنفسهم من الفساد والفقر والبطالة والمرض. وقد وجدوا في الحماس الذي أبداه كوادر "حماس" لمساعدتهم ما يبعث فيهم أملاً كاد يخبو. وكان في أداء عدد يعتد به من هؤلاء الكوادر في البلديات التي فازت بها "حماس" ما أعاد هذا الأمل إلى الإنسان الفلسطيني البسيط. وإذا أضفنا إلى ذلك أن هؤلاء الكوادر غير متورطين في فساد أو إفساد، يصبح سهلاً فهم لماذا حققت "حماس" فوزها الكبير.
وما دام الأمر على هذا النحو، لابد أن يكون قادة "حماس" قد أدركوه. وفي كلام بعضهم في الأيام الأخيرة ما يفيد أنهم يتجهون إلى استيعابه، وإذا صح ذلك، واستمر وتحول إلى برنامج للعمل، تستطيع هذه الحركة أن تشرع في بناء مجتمع فلسطيني أقوى في مقاومته للاحتلال من كل أسلحة العالم.
و"الروشتة" معروفة وميسرة لمن يضع المصلحة العامة فوق المصالح الخاصة، سواء مصلحة التنظيم أم قادته وأعضائه. وكان كثير من أعضاء المجلس التشريعي السابق، ومعظمهم من حركة "فتح"، قد طرحوا عناصر أساسية في "روشتة" الإصلاح منذ أن أثاروا مسألة الفساد في أجهزة السلطة للمرة الأولى في عام 1997، ولم تمض على انتخاب ذلك المجلس شهور قليلة. ولكن محاولاتهم الإصلاحية تحطمت على صخرة السلطة حين كانت في عنفوانها.
وفي إمكان "حماس" أن تباشر هذا الإصلاح عبر حكومتها التي ستتولى السلطة للمرة الأولى، ومن شأن هذا الإصلاح أن يدعم دور المجلس التشريعي في المساءلة والمحاسبة، وأن يوفر شفافية غير مسبوقة في العمل الفلسطيني.
فإذا فعلت ذلك، ستقدم نموذجاً في الحكم الرشيد يمثل تحدياً خطيراً بالنسبة إلى الدول والمنظمات الغربية التي تربط