انتقل إلى رحمة الله الأستاذ سر الختم الخليفة الحسن رئيس حكومة ثورة أكتوبر المجيدة (64-1965)، وبانتقاله انطوت صفحة من تاريخ السودان الحديث، ما تزال أصداؤها تتردد في الساحة السياسية السودانية، باعتبارها لحظة من لحظات التاريخ الوطني، التي حقق فيها الشعب السوداني معجزة أكتوبر الخالدة، التي أطاحت من خلال "الجهاد المدني"، بأول حكومة عسكرية ديكتاتورية عاش السودان تحت ظلها فترة حالكة الظلام في تاريخه المليء بالصفحات المظلمة والانتصارات المشرقة... وكانت أكتوبر وما تزال قمتها المشرقة.
أصبح الأستاذ المعلم سر الختم الخليفة اليوم في ذمة ربه وفي ذمة التاريخ، وسيقول التاريخ كثيراً عنه، وعن تلك المرحلة التاريخية عسيرة الوصف. لكن الحق الذي يجب أن يذكر ويسجل أنه كان واحداً من الشخصيات القليلة التي عبرت مسرح السياسة السودانية، وحازت على إجماع قومي، وتقبلها الناس من مختلف المذاهب والاتجاهات قبولاً حسناً وباتفاق وإجماع نادرين في حياتنا السياسية.
كان سر الختم معلماً مشهوداً له بالكفاءة والمقدرة والريادة في مهنته المقدسة. عمل عميداً لمعهد بخت الرضا –أول معهد لتدريب المعلمين في السودان– وخلف وراءه آثاراً بارزة يشهد بها ويعرفها العاملون في حقل التربية والتعليم. وعمل مديراً للمعهد الفني بالخرطوم –سيصبح فيما بعد جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا– وعلى يديه تخرج ذلك الجيل من الأساتذة والمعلمين الذين نهضوا وطوروا تلك المؤسسة التعليمية الرائدة في السودان. وعمل مديراً للتربية والتعليم في الإقليم الجنوبي, وكانت فترة عمله هناك قد أتاحت له أن يكون واحداً من الرسميين السودانيين القلائل الذين تعمقت علاقتهم وصلاتهم بإخوانهم الجنوبيين وظلوا موضع ثقتهم وتقديرهم، ومن هنا، وربما بسبب تلك المرحلة رشحه بعض "ضباط أكتوبر" لتولي رئاسة الحكومة، عندما سقط نظام نوفمبر وحدث ذلك الفراغ في السلطة التنفيذية وحدث ذلك الخوف من أن يستغل بعض كبار العسكريين -الذين أرغموا على الاستقالة- الموقف ويرتدّوا بالثورة إلى انقلاب عسكري أشد ضراوة من انقلاب نوفمبر 1958. لقد اعتذر المرشحان المدنيان لتولي رئاسة الحكومة الثورية (القاضي بابكر عوض الله الذي سيصبح رئيساً لحكومة انقلاب مايو 69, والطيب الفاضل شداد الذي سيصبح رئيساً لأول برلمان منتخب بعد ثورة أكتوبر) عن قبول التكليف الثوري. لقد قبل سر الختم الخليفة، المهمة الصعبة التي لم يتطلع إليها، ولم يسع لها، إحساساً منه بالمسؤولية الوطنية، وهو يعلم بالمصاعب والمخاطر، التي ستحيط بالثورة التي أصبحت حكومة أكتوبر. وكانت تلك المصاعب والمخاطر حقيقية سرعان ما تكشفت بعد أقل من شهرين. فقد تحركت المطامع القديمة وأنكرت على النقابات والهيئات المهنية، التي قادت الإضراب السياسي والعصيان المدني، والتي عملت سنوات طويلة لتمهيد وحرث الأرض للثورة القادمة حقها في مجلس الوزراء. كان سر الختم هو الذي نزع فتيل الانفجار مما حسبه البعض منا تراجعاً واستسلاما لـ"قوى اليمين" لكنه والحق يقال اليوم كان موقفاً يحتاج إلى الشجاعة وإحساساً بالمسؤولية الوطنية لم يتوفر وقتها لكثير من ناقديه آنذاك... وتحملت حكومة سر الختم مسؤوليتها وأجرت الانتخابات البرلمانية في موعدها، وسلمت الأمانة لحكومة منتخبة برئاسة محمد أحمد محجوب، وعين سر الختم الخليفة سفيراً للسودان لدى المملكة المتحدة.
رحم الله الأستاذ المعلم سر الختم الخليفة الذي برحيله انطوت صفحة من تاريخ السودان. صفحة جاهد الكاتب كثيرا أن يستوثق من بعض أسرارها منه في حياته، ولكن كرم أخلاقه ودماثة خلقه الذي فطر عليه حال بينه وبين ذلك.