يطرح على الثقافة العربية في الوقت الراهن سؤال خاص بعاصفة القرن الحادي والعشرين: كيف ستتفاعل مع العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية؟
ولابد أن نبدأ بتساؤل: هل يمكن إصدار حكم قاطع فيما يتعلق بقبول أو رفض العولمة؟ إن إصدار حكم نهائي على العولمة ينص على رفضها رفضاً مطلقاً، يكشف عن تعجل في إصدار الأحكام بغير تأمل في منطق التطور التاريخي. وإذا كان صحيحاً أن العولمة الراهنة تكشف عن ذروة من ذرى تطور النظام الرأسمالي العالمي، فإن التاريخ سيتجاوز هذه اللحظة، وسيكشف في المستقبل المنظور أن العولمة –بغض النظر عن نشأتها الرأسمالية– ستتجاوز شروط نشأتها لتصبح عملية عالمية واسعة المدى، ستنقل الإنسانية كلها –على اختلاف ثراء وفقر الأمم– إلى آفاق عليا من التطور الفكري والعلمي والتكنولوجي والسياسي والاجتماعي.
وفي هذا الإطار، فثمة حاجة ملحة إلى منهج صحيح للتعامل مع ظاهرة العولمة بكل أبعادها. فالعولمة عملية تاريخية غير قابلة للارتداد. وبذلك يعد منطقاً متهافتاً ما يدعو إليه بعض أعدائها من ضرورة محاربتها، لأنك لا تستطيع الوقوف أمام نهر يتدفق، هي عبارة عن حصاد تقدم إنساني تم عبر القرون الماضية، وأسهمت فيه شعوب وحضارات شتى. هل يمكن مثلاً محاربة الإنترنت، من خلال إصدار قرار بالامتناع عن التعامل معها، كما تفعل الآن بعض الأنظمة السياسية العربية وهل يمكن الامتناع عن التعامل مع منظمة التجارة العالمية، مع الاعتراف بسلبيات متعددة في نصوصها، وهل يمكن مواصلة خرق حقوق الإنسان وقمع الشعوب، في إطار من العولمة السياسية يدعو لضرورة تطبيق الديمقراطية، ونشر آفاق التعددية السياسية والفكرية؟ وهل يمكن مقاومة بزوغ وانتشار ثقافة فكرية كونية تحمل في طياتها تبلور الوعي الكوني بأخطار البيئة على سلامة الكوكب ذاته، وأهمية صياغة معايير أخلاقية كونية تضع قواعد المنهج في التعامل بين الشعوب والحوار بين الحضارات، وتحارب العنصرية والتطهير العرقي والتعصب الديني، والاستقلال الاقتصادي؟
إن المعركة الحقيقية لا تكمن في مواجهة العولمة كعملية تاريخية، وإنما ينبغي أن تكون ضد نسق القيم السائد الذي هو في الواقع إعادة إنتاج لنظام الهيمنة القديم. وهنا على وجه التحديد ينبغي تحديد طبيعة المعركة في النضال –على المستوى الدولي– للقضاء على ازدواجية المعايير في تطبيق حقوق الإنسان، وعدم فرض نموذج الديمقراطية الغربية كنموذج أوحد للديمقراطية، وإتاحة الفرصة للشعوب، لكي تمارس إبداعها السياسي. وهناك ضرورة عاجلة لتقنين حق التدخل حتى لا يشهر كسلاح ضد الشعب العربي وغيره من شعوب الجنوب. كما أن قضية حل الصراعات بأسلوب سلمي، وتحقيق السلام العالمي، وإعادة النظر في مفهوم التنمية على المستوى العالمي، كل هذه ميادين تحتاج إلى نضالات متواصلة لضمان صياغة نسق قيم عالمي يحترم حرية الشعوب، ويسهم في تقدمها في ظل حضارة إنسانية جديرة بالتحقق في القرن الحادي والعشرين، وفي إطار هذا التقييم العام للعولمة، يظل السؤال الجوهري: ما هي تأثيرات العولمة على الوطن العربي؟
يخطئ صناع القرار العرب لو ظنوا أن تحديات عصر المنافسة العالمية هي تحديات اقتصادية بحتة، تتصل بزيادة الصادرات، أو رفع معدلات الإنتاج، أو الارتقاء بمستوى الجودة، ذلك أن أخطر التحديات جميعاً، في هذا المجال بالذات، تحديات ثقافية. وهنا تتم الإشارة على وجه الخصوص إلى الارتفاع الخطر في معدلات الأمية في الوطن العربي، والتي تكاد تصل في بعض التقديرات إلى 60%، ومعنى ذلك أن 60% من الشعب العربي لن يكونوا قادرين على التعامل بكفاءة مع عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، ومع حقبة ثورة الاتصالات الكبرى، ونشوء مجتمع المعلومات العالمي، والتي قد تكون شبكة "الإنترنت" رمزاً دالاً عليها. وهكذا يمكن القول إن الوطن العربي يحتاج إلى ثورة تعليمية كاملة لا تقضي على الأمية فقط، وإنما تعيد تأسيس مؤسسات التعليم العام من حيث الشكل والمضمون، وترفع مستوى الأداء في المؤسسة الجامعية، وفي المراكز البحثية.
أما بالنسبة للتجليات السياسية للعولمة، فإنه يمكن القول إنها تتركز في رفع شعارات الديمقراطية أو التعددية الفكرية والسياسية، واحترام حقوق الإنسان، وفي مواجهة كل شعار من هذه الشعارات الثلاثة، تجابه الدول العربية جميعاً تحديات خطيرة، فقد قطعت بعض الدول العربية خطوات لا بأس بها في طريق الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية والتعددية السياسية، إلا أن هذه التعدية السياسية لا زالت مقيدة، كما أن عدداً لا بأس به من الدول العربية لم يخط الخطوة الأولى في طريق الديمقراطية. غير أنه ينبغي أن يوضع في الاعتبار أن هناك اعترافاً عالمياً بالقسمات المتميزة للديمقراطية في أي مكان. أما حقوق الإنسان، فهي تمثل تحدياً للممارسات السياسية في كثير من بلاد العالم العربي، لأن بعض الدول العربية لا تريد أن تطبق المعايير الدولية لحقوق الإنسان زعما بأنها تتعارض مع بعض سمات الخصوصية الثقافية.
ويمكن