احتل خبر إدانة المؤرخ البريطاني ديفيد إيرفينج، بواسطة إحدى محاكم الجنايات في العاصمة النمساوية فيينا، بسبب إنكاره في كتبه ومحاضراته لحصول المحرقة اليهودية على يد الحكم النازي، اهتماماً كبيراً في وسائل الإعلام العالمية والعربية، وفي الدوائر القانونية في العالمين العربي والإسلامي. ذلك أننا جميعاً مشغولون حالياً بالعثور على وسيلة لإقناع الاتحاد الأوروبي ودوله بضرورة وضع قيود قانونية على حق حرية التعبير يحول بين استخدام هذا الحق وبين المساس بالمعتقدات الدينية والمقدسات، على غرار ما أحدثته الرسوم الدانمركية.
ولكي نتبين الفارق الذي دعا رئيس وزراء الدانمرك إلى الاكتفاء بإبداء أسفه للرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، دون اتخاذ إجراء عقابي ضد الصحيفة التي نشرتها، وبين محاكمة المؤرخ البريطاني وإصدار حكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات في النمسا، فإنه يجب علينا أن نضع المسألة القانونية في صلب تفكيرنا عند المقارنة.
إن المحكمة النمساوية قد أصدرت حكمها في قضية منكر المحرقة اليهودية بناء على أساس قانوني ودستوري، ذلك أن الدستور النمساوي يحرم إنكار المحرقة اليهودية ويحرم إنكار مساوئ النظام النازي الذي قاده هتلر. وفق هذا النص الدستوري تم إصدار قانون نمساوي مشابه للقانون الفرنسي المعروف باسم قانون "جيسو" نائب البرلمان الفرنسي الذي دعا إلى إصداره، وقد حوكم بمقتضاه المفكر الفرنسي روجيه جارودي بسبب إنكاره أيضا للمحرقة واعتباره إياها مجرد أسطورة اخترعتها الصهيونية لتقيم على أساسها مشروع دولة إسرائيل. إن القضية محل الجدل إذن هي قضية وجود قيود قانونية على حرية التعبير في بعض الدول الأوروبية تجاه قضية المحرقة اليهودية، وعدم وجود مثل هذه القيود في قضية المساس بالمقدسات الدينية الإسلامية. هنا مربط الفرس الذي يجب أن نركز عليه، ذلك أنه عندما يرفض بعض الأوروبيين التجاوب مع الدعوات العربية والإسلامية لإصدار قوانين تحرِّم المساس بالمقدسات الإسلامية، وعندما يصر هذا البعض على أن قيمة حرية التعبير قيمة مقدسة في الحياة الأوروبية، فإن تلك القضية النمساوية تفضح زيف هذا الموقف الأوروبي.
وقد علق المؤرخ البريطاني المدان على محاكمته وإدانته بقوله، إن المحاكمة تتم وفقاً لقانون يعارض حرية التعبير، ووصفه بأنه قانون سخيف وديكتاتوري. أما المحامون الذين دافعوا عن المؤرخ، فطالبوا بإلغاء القوانين التي تقيد حرية التعبير، في حين التقط بعض الإعلاميين الخيط قائلين إنه إذا صممت الحكومات والبرلمانات الأوروبية على إبقاء القوانين المتعلقة بقضية المحرقة، فعليها أن تقبل قوانين مساوية في القضايا الأخرى.
إن هذا الجدل الأوروبي الذي يثور بمناسبة قضية المؤرخ البريطاني، يأتي في توقيت ملائم لنا تماماً؛ ذلك أن دخولنا بواسطة القنوات الدبلوماسية والبرلمانية والإعلامية، إلى الساحة الأوروبية للمطالبة بمساواة المقدسات الإسلامية وحمايتها من المساس أو الإنكار أو السخرية بقضية المحرقة، سيكون دخولاً موفقاً في هذا التوقيت. وإذا كانت الاعتبارات السياسية الأوروبية التي أملت تشريع القوانين الخاصة بتجريم التعرض للمحرقة قد انبنت على مصالح أوروبية في تيسير إقامة إسرائيل وزرعها في المنطقة العربية، لخدمة هذه المصالح والتخلص من الفائض السكاني اليهودي في أوروبا، فضلاً عن استخدام قضية المحرقة كوسيلة لتجريم أي صوت أوروبي يدافع عن النظام النازي أو يحاول تصحيح صورته... فإن المصالح الأوروبية في قضية المساس بالمقدسات الإسلامية أصبحت مهددة بشكل واضح بعد موجة الغضب والاحتجاجات والمقاطعة الاقتصادية التي اجتاحت العالم الإسلامي. أعتقد أن الوعي الأوروبي بضرورة الحفاظ على علاقات إيجابية مع دول العالم الإسلامي يمكن اليوم أن يمثل جسراً يسهل لنا العبور إلى هذا الوعي لإقناعه بمعاملة مقدساتنا على غرار المحرقة.
أما الحديث عن قضية المحرقة في حد ذاتها، فأعتقد أن اعتذار المؤرخ البريطاني عن إنكاره السابق لها وقوله إنه تعلم الكثير منذ صدور قرار القبض عليه، بعد إلقائه محاضرة الإنكار في عام 1989 في النمسا وكذلك إقراره أمام المحكمة أن أفكاره قد تغيرت بسبب اطلاعه على وثائق صححت أفكاره... إنما هو اعتذار يدل على إشكالية يجب أن يحلها أساتذة التاريخ الأوروبي الحديث، لنعلم هل هناك مصادر تاريخية تنفي هذه المحرقة أم أنه لا يوجد سوى المصادر الشائعة لدى الأوروبيين والإسرائيليين والتي تؤكدها!