لا يساورني أدنى شك في أن الرسوم الكاريكاتيرية الدانمركية المسيئة للنبي محمد, قد أثارت مشاعر غضب عارم في أوساط الكثير جداً من المسلمين على امتداد الكرة الأرضية. ولذلك فإنني لفي غاية السعادة لعدم نشرها في الصحيفة التي أعمل بها. وفي سبيل فهم القصة الدانمركية هذه, فليس كافياً البتة مجرد قراءتك لنظرية صمويل هنتينغتون الكلاسيكية عن "صِدام الحضارات", بل إن عليك أيضاً قراءة كارل ماركس, لكون ردة الفعل الإسلامية الغاضبة هذه, لا يمكن اختزالها فيما وجِّه للمسلمين من إساءة غربية لعقيدتهم فحسب. وهذا يعني أن لردة الفعل هذه علاقة كبيرة بما استشعرته جماهير المسلمين الغاضبة من خيبة شرقية داخلية كبيرة أيضاً. والإشارة هنا بالطبع إلى فشل الكثير من الدول الإسلامية في بناء اقتصادات قادرة على تأهيل الشباب وتهيئتهم للدخول في عالم الحداثة, وهي خيبة تحمل ما تحمل من الإساءة ومشاعر التحقير والإحباط في طياتها وثناياها.
والسمة الغالبة على عالم اليوم أنه أضحى من التشابك والتداخل مع بعضه بعضاً, إلى حد غدا من المتعذر فيه عملياً, أن يكتفي الإنسان بالنظر إلى ما حوله في نطاق الحيز الضيق الذي يحتله من الكرة الأرضية, دون أن يتطلع إلى ما وراء ذلك وإلى أفق البشرية الرحيب الممتد. وفي عالم مسطح بكل هذا القدر, فإن نصيبك من الإهانة والتحقير, إنما يأتيك وأنت جالس في مكانك عبر الألياف البصرية بسرعة 56 كيلومتراً أو عبر الموجات الواسعة, لا فرق في ذلك سواء كنت في ضواحي مدينة باريس الإسلامية, أم في كابول! والملاحظ أن شباب المسلمين اليوم قد أثارت حنقهم الرسوم الكاريكاتيرية عن النبي محمد, بينما ثارت ثائرة شباب الأمس بسبب قصة نشرتها مجلة "نيوزويك" من قبل قيل إنها خدشت قدسية القرآن. فلماذا كل هذا الشعور بالإساءة والإهانة إذن؟ والإجابة هي أن لديك إحساساً داخلياً قوياً مسبقاً بتخلفك عن الركب, ولهذا السبب فإنه مهما صغرت الإهانة الموجهة إليك من الخارج, فإنك تشعر بها وهي تخترق مسام جسمك عميقاً عميقاً حتى النخاع. والسبب بالطبع أن جلدك رهيف وشفاف جدا.
وإن كنت بحاجة لاختبار صحة ما أقول, فما عليك إلا أن تنظر إلى ضخامة عدد المسلمين في بلد مثل الهند, وتلاحظ كم كانت ردة فعلهم وتعبيرهم عن غضبهم سلمية بما لا يقاس إلى عنف ردة فعل مسلمي بلد مجاور لهم مباشرة هو باكستان. والفارق الرئيسي بين ردة فعل الشعبين المسلمين إزاء الحدث الواحد, إنما هو فارق يتلخص في منعة المسلمين الهنود واستناد ظهورهم إلى ديمقراطية راسخة ومزدهرة, خلافاً لما هو عليه حال إخوتهم في باكستان. وليس أدل على هذه الحقيقة من أن أغنى أغنياء الهند, هو رجل أعمال يدين بالإسلام ويعمل في مجال البرمجيات الحاسوبية.
وبالمقارنة فما أكثر الشباب المسلمين العرب الذين يعيشون في مجتمعات لم تمنحهم سوى الحرمان المطلق من أية فرصة للتعبير عن طاقاتهم وإبداعاتهم الكامنة. وها قد نشر "معهد الشرق الأوسط للصحافة" للتو تحليلاً لآخر إحصاءات التوظيف التي نشرتها الأمم المتحدة, كشف عن أن منطقة الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا, تحتل أعلى معدلات البطالة العالمية على الإطلاق. وعندما نكتشف أن ذلك المعدل يبلغ نسبة 13.2 في المئة, فلا سبيل سوى التسليم بأنه أسوأ مما هو عليه حال البطالة في دول جنوب الصحراء الإفريقية. والمؤسف حقاً أن نسبة الارتفاع المسجلة لإجمالي الناتج القومي للمنطقتين ذاتهما خلال السنوات الممتدة من 1993-2003 هي 5.5 في المئة, في حين لم تزدد نسبة الكفاءة في توظيف هذه الموارد على النحو رشيد وملائم لحاجات تلك المجتمعات, على 0.1% سنوياً, وهي نسبة لا تتفوق إلا على منطقة واحدة فحسب في العالم, هي إفريقيا جنوب الصحراء!
والسبب وراء كل هذا أن الجزء الأعظم من إجمالي الناتج القومي لهذه الدول, يعتمد كلية على العائدات النفطية, وليس على عائدات العاملين المهرة المتعلمين القادرين على الخلق والابتكار, اعتماداً على استخدام وتوظيف التكنولوجيا الحديثة. والملاحظ أن نسبة تقارب الـ60 في المئة من إجمالي سكان الشرق الأوسط هي من الشباب دون سن الخامسة والعشرين. لكن نتيجة لقلة ومحدودية فرص توظيفهم –على حد تحليل "معهد الشرق الأوسط للصحافة"، فإن المنطقة تضخ سنوياً نحو 500 ألف من كتائب العاطلين عن العمل. وبالمقابل فلك أن تنظر كيف تنصب أعين الصين والهند على تربية الأطفال ودفعهم دفعاً باتجاه العلم والابتكار الذهني الخلاق, في حين تتراجع وتهزل المعايير العلمية في العالم الإسلامي, لاسيما حين يأتي الأمر على العلوم وتنمية الأذهان والعقول الباحثة الناقدة. عندها يبدو التخلف عن الركب والآخرين –حتى على نطاق العالم الإسلامي نفسه- واضحاً وضوح الشمس.
والحقيقة المؤلمة أيضاً أن لحظة فراق الإسلام والعلوم قد حدثت منذ عدة قرون خلت, على الرغم من قيادة العالم الإسلامي لقاطرة الابتكار العلمي طوال الفترة الممتدة بين القرنين التاسع والرابع عشر الميلاديين. وكانت طفرة علمية قصيرة قد حدثت في الق