الغضب مشروع، والاحتجاج مطلوب، والتظاهرات الجماهيرية ضد الإساءة مبررة، والاعتذار واجب، فلا يوجد مسلم يرضى بالإساءة إلى دينه، فكيف إذا مسّت الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم خير البرية وخاتم الأنبياء والمرسلين؟ ولكن الغضب إذا انفلت والاحتجاج إذا تطرّف والتظاهرات إذا أضرت فلابد من وقفة للمراجعة والتبصّر.
لماذا سمحنا لعواطفنا ومشاعرنا الدينية أن تقودنا للإساءة إلى أنفسنا وإلى الآخرين؟!
في ليبيا -منذ أيام- أوقعت اضطرابات بنغازي (11) قتيلاً، وأطاحت بوزير الأمن وعدد من قادة الأجهزة، على خلفية استخدام القوة المفرطة في التعاطي مع المتظاهرين، الذين اقتحموا القنصلية الإيطالية وأحرقوا قسماً منها، احتجاجاً على وزير إيطالي ارتدى قميصاً يحمل رسوماً مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وفي بيروت تم استغلال الغضب الشعبي في أحداث يوم "الأحد الأسود" في الأشرفية لمهاجمة الكنائس والقنصلية الدانمركية وإشعال حرائق فيها غير التخريب وأعمال الشغب.
وفي دمشق من قبل بيوم قام المتظاهرون بإحراق سفارتي الدانمرك والنرويج، وفي إيران قام متظاهرون بإلقاء زجاجات حارقة في حرم السفارة الدانمركية واقتحموا السفارة، ورشقوا سفارة النمسا بقنابل حارقة. وفي غزة تم رشق مقر الاتحاد الأوروبي بالحجارة وأدى ذلك لوقوع صدامات بين الشرطة والمتظاهرين، وفي إندونيسيا ألحق المتظاهرون أضراراً بمبنى السفارة الدانمركية.
أما المظاهرات التي اجتاحت أفغانستان وباكستان ونيجيريا فقد خلفت العديد من القتلى والجرحى، وفي العديد من الدول العربية والإسلامية تم إحراق الأعلام الدانمركية والنرويجية وبعض الدول الغربية، بل حتى الأميركية. ونحن نستهين بمسألة حرق الأعلام، وهي أول ما تطالها غضبتنا مع أنها رموز يجب أن تحترم، فلا نتصور مقدار الإهانة الموجهة لشعوبها حينما نعمد إلى حرق أعلامها، ولا أدري كيف تكون ردود فعلنا إذا تم حرق أعلامنا من قبل تلك الشعوب؟
حرق الأعلام ليس احتجاجاً حضارياً، وإحراق الممتلكات والاعتداء على السفارات والتدمير والتخريب وتهديد رعايا الدول الغربية ليس أسلوباً مقبولاً ولا يرضاه إسلامنا ورسولنا عليه الصلاة والسلام. من يخرج لنصرة رسول الإسلام فعليه أن يتحلى بأخلاقه عليه الصلاة والسلام، وهو قد ضرب المثل الأعلى في الخلق، في العفو، في التسامح. تلك التصرفات والسلوكيات تسيء إلينا وإلى ديننا ويجب علينا أن نستنكرها وندينها لا أن نبررها ونراها مسألة طبيعية. أين عقلاء القوم مما حدث؟ لماذا تركوا الساحة لدعاة الغضب يشحنون الناس؟ أين الساسة والمسؤولون؟ لماذا سمحوا لدعاة الكراهية أن يقودوا الجماهير؟ عجباً يشحنون الناس ثم يتبرؤون. أحد الرموز الكبيرة في الدين والسياسة، بعد أن شحن الناس ونفخ في نار الغضب ودعاهم لمقاطعة الغرب الصليبي، مقاطعة إسلامية شاملة والتوجه لآسيا، ثم هدد بيوم الغضب الإسلامي، وقال إنه على استعداد للعودة للعيش على (تمرنا ونخيلنا ولبننا)! تبرأ فجأة مما قاله وظهر في إحدى الفضائيات ليقول إنه قصد (الغضب العاقل)! أي غضب عاقل يرتجى من الجماهير وقد ملأت نفوسها حقداً وكراهية وانتقاماً؟!
هكذا يتلاعبون بعواطف الناس في استغلال بشع وفي انتهازية رخيصة للدين وللمشاعر الدينية لتحقيق النفوذ والكسب.
لقد غاب صوت العقل والاعتدال تماماً عن الساحة العربية، وإنه لأمر محزن أن تذهب كل الجهود المبذولة منذ اعتداءات (11/9) وعلى امتداد (5) سنوات، لتصحيح صورة الإسلام لدى الغرب والعالم جميعاً في لحظة غضب منفلت. مؤتمرات وحوارات ولقاءات وزيارات وعلى مختلف الأصعدة الدينية والثقافية والسياسية والشعبية بين الغرب والمسلمين لإزالة الركام الهائل الذي خلفته كارثة 11/9، كلها ذهبت سدىً وعدنا إلى نقطة الصفر، إلى المربع الأول، ليتسيّد دعاة الصدام والمواجهة هنا وهناك.. فهل تترك الساحة ليقودونا إلى المهالك؟!
في خلال (5) سنوات وبعد الحوادث الإرهابية التي ضربت أوروبا والعالم الإسلامي، خفت صوت المهيجين وتلاشى صياح المحرّضين وانحسر دورهم وجاءت هذه (الإساءة) لتنعشهم وتنشطهم ووجدوها فرصة ذهبية لاستعادة دورهم والنفخ في نار (المؤامرة العالمية) و(الحقد الصليبي الدفين) و(الغرب الكافر) و(الكفر ملّة واحدة)، هكذا صوّر خطباء التحريض العلاقة بين الحضارة الغربية والمسلمين، إنها معركة إما أن تنتصر فيها أو ينتصرون!
أين ذهبت تعاليم القرآن (ولا تزر وازرة وزر أخرى)؟ وأين (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا)؟ وأين (خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين)؟ وأين (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)؟!
أين ذهبت كل تلك التعاليم؟ ولماذا تعميم الحكم على الأوروبيين بجريرة بعضهم ولطالما قلنا للعالم لا تؤاخذوا المسلمين بفعلة بعضهم؟ هناك صحف أوروبية أعادت نشر السيئة ولكن ما نسبتها بمجمل الصحف التي رفضت ذلك؟ إذن لماذا التركيز على السيئ وإهمال الحسن والإيجابي عندهم؟ الصحيفة الدانمركية الم