عند الحديث عن الولايات المتحدة ودورها في عالمنا، أستشهد كثيراً بحكمة مفيدة سمعتها من الشيخ عبد رب الرسول سياف في الزمن المضيء للجهاد الأفغاني. كانت أجواء أفغانستان يومها، وتحديداً في نهاية الثمانينيات، ملبدة بالشائعات، بعدما وافق السوفييت على الانسحاب معترفين بهزيمة غير مسبوقة لجيشهم الأحمر، وبدا في الأفق انتصار قادم للمجاهدين، ولكن كان هناك توجس من مؤامرة ما تحاك لسرقة ثمرة الجهاد وتضحيات المجاهدين، وكالعادة كانت الولايات المتحدة المتهم الأول بحياكة تلك المؤامرات.
قصة قديمة، لا تهم تفاصيلها، لأنها متكررة في كل زمن، والمهم هو ما قاله الشيخ سياف الذي كان أبرز قادة المجاهدين عندما طرح عليه أحد المجاهدين العرب أو "الأنصار" كما كان العقلاء منهم يحبون أن يسموا، مخاوفه مما يحاك ضد الجهاد. قال الشيخ وهو يمسح على لحيته السوداء الكثة التي ميزته عن غيره من القادة الأفغان "أنتم تعتقدون أن أميركا على كل شيء قدير، وأنا أعتقد أن الله على كل شيء قدير".
من لطف الله بنا وبالأميركان أيضاً أنه هو العلي القدير، المصرِّف للأمور، واضع سنن التحولات في الأمم، محرك قوة التاريخ، وليس عضواً في الكونجرس، اعتقد يوماً أن الدواء الشافي من شر الإرهاب والغضب الآتي من بلاد المسلمين، هو في نشر الديمقراطية بينهم، وفي اليوم التالي يغير رأيه ويحاسب وزيرة خارجيته، ويتهمها بأن سياستها باتت تأتي بأعداء أميركا إلى سدة الحكم في الشرق الأوسط، بعدما فازت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بالانتخابات التشريعية الأخيرة في الأراضي الفلسطينية، ما أزعج مدللته إسرائيل، التي يراها وديعة كأنها "ديزني لاند"، أقيمت في صحراء العرب القاحلة، وليست قوة بطش واحتلال، بينما كان من المنطقي أن يرى أن "حماس" هي أفضل ما تستحقه إسرائيل المتغطرسة بفضل دعمه والتي رفضت أفضل عروض السلام من الفلسطينيين والعرب آخرها مبادرة السلام العربية التي قادتها دولة وزعيم قادران على تحقيق السلام المنشود.
انتصرت "حماس" في فلسطين، ومن قبلها "الإخوان المسلمون" في مصر، فأصبحت الديمقراطية سيئة وغير مناسبة للعرب والمسلمين! أية سذاجة هذه؟ وهل نسمح نحن العرب والمسلمين أن نربط مسيرة الإصلاح في عالمنا اليائس بمزاج الإدارة الأميركية، وكأن الإصلاح والديمقراطية أنبوب نفط أو ماء يفتحونه ويغلقونه وفق هواهم. من المفيد أن يعرفوا، ونحن أيضاً، أن مسيرة الإصلاح والديمقراطية لم تأتِ بها أميركا إلى المنطقة بعد 11 سبتمبر، كل الذي حصل أنها رفعت حمايتها عن عملية حجب الإصلاح في عالمنا، والتي امتدت لعقود طويلة، وأفرزت تخلفا وكبتا وانسدادا سياسيا. بينما الإصلاح هو التحرك الطبيعي لقوة التاريخ، ولعل في قول الخليفة عمر بن عبدالعزيز تعريف لهذه القوة عندما قال"إلا أن لي نفسا تواقة، كلما بلغت أمرا تاقت إلى ما هو أعلى منه"، كان الخليفة يتحدث عن نفسه وطموحاتها، ولكن للأمم الحية نفسا تواقة هي الأخرى، وكان ممكناً لقوة التاريخ والنهوض أن تأخذ مجراها، وأن نستظل من عقود بالحرية والاستقرار والرخاء والنماء الذي تمتعت به كثير من الأمم من حولنا، لولا التدخلات الأميركية وغيرها، ليس سراً أن أول انقلاب عسكري في العالم العربي كان من صنع الاستخبارات الأميركية في الأربعينيات الميلادية، لقد كان عالمنا العربي ساحة للحرب الباردة بين الغرب "الليبرالي" الديمقراطي والمعسكر الشيوعي السوفييتي، ودفعنا الثمن غالياً عندما قدم الاستقرار المضمون مع التخلف على الانفتاح. الخوف من الشيوعية منع التحول الكبير في عالمنا في تلك الحقبة حتى سقط الاتحاد السوفييتي وشيوعيته، والخوف من الإسلاميين منع التحول بعد ذلك إلى أن وقعت واقعة 11 سبتمبر.
بعد فوزها في الانتخابات، عبر أحد قادة "حماس" للإذاعة البريطانية عن شكره للولايات المتحدة أن دعمت التحول الديمقراطي في فلسطين، ولكنه أضاف أنها لا تستطيع أيضاً أن تعيد حركة الزمن إلى الوراء، نعم، إن التحول نحو الإصلاح الذي حصل في عالمنا العربي ورغبة الشعوب في أن تكون لها كلمة، حقيقي وإنْ كان متفاوتاً، ولا يمكن إعادة عجلة الزمن إلى الوراء. وبالتالي، فإن محاولات "التحكم" أو "التأثير" أو حتى السيطرة على هذه التحولات ستكون لها عواقب وخيمة، والأسوأ منها السعي إلى إفشال الفائزين في الانتخابات إذا أتوا على غير هوى الإدارة الأميركية، ويبدو أن هناك من يفكر في ذلك في واشنطن. فبالرغم من نفي الإدارة الأميركية لما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأسبوع الماضي عن وجود خطة أميركية- إسرائيلية للتضييق على "حماس" وخنقها مالياً حتى تفشل في مهمتها كحكومة فلسطينية منتخبة، فتنهار فتجري انتخابات فلسطينية بعد أن يتعلم الشعب الفلسطيني درساً، فلا يكرر خطيئة انتخاب عدو لأميركا وإسرائيل، فإن تلك الخطة ليست سراً، وبالفعل فإن الموقف الأميركي الحالي لا يزال صارماً ضد الاتصال أو تقديم مساعدات مالية للفلسطينيين، طالما أن حكومتهم "حماسية"، إن هذا الفعل قد يرقى إلى أن يكون