لو تصورنا مشاعر قرّاء "الاتحاد" أمس، وانطباعاتهم بعد إعلان كاتب عمود "عليه العوض" مغادرة ساحة الكتابة في هذا العمود، لأدركنا أن من بين المشاعر العديدة التي يمكن أن تنتاب القرّاء، هناك بالتأكيد مشاعر فرح وغبطة اجتاحت صدور الكثيرين ممن طاردهم هذا العمود، وكشف نقائص دوائرهم ومؤسساتهم، فهؤلاء -ولا ريب- شعروا بفرحة غامرة لانتقال هذا العمود من صفحة الحاضر إلى الماضي، ومن متابعة قضايا الساعة إلى آليات البحث في أرشيف الصحيفة. فغياب نافذة ضوء -مع وجاهة السبب المعلن- تفتح بالضرورة نافذة حرية للمتقاعسين، ولكن ما لا يدركه هؤلاء أن عجلة القطار إن دارت فإنها لا تعود إلى الوراء، وأن حركة التاريخ تمضي دوما إلى الأمام، وأن من الصعب أن يستحمّ الإنسان في ذات النهر مرتين، لأن الحياة تجدد نفسها، ومن الصعب دفع العجلة إلى الوراء، وأن غياب عمود ناقد امتلك مساحة واسعة من الحرية والشفافية لا يعني بالضرورة إغلاق نافذة ما، لأن الهواء قد تجدّد داخل غرف البيت الإعلامي منذ سنوات، وبدفع من عمود "أبوعوض" وغيره من كتّاب الأعمدة الرصينة، وبدعم من قيادات حريصة على فتح النوافذ لاستنشاق هواء إعلامي نقي.
ولا يشك أحد في مدى شعبية عمود "أبوعوض"، وأن هذا العمود كان مثار اهتمام قرّاء "الاتحاد"، ليس فقط بسبب موقعه الطبوغرافي المميز ضمن التصميم الإخراجي للصحيفة، ولكن أيضا لأن العمود كان يمثل رئة للكثير من أصحاب المشكلات، ومتنفسا لمن أرادوا التعبير عن قضاياهم وأوجه معاناتهم اليومية، فهكذا الكاتب هو مرآة للقرّاء والعكس صحيح.
الكتابة اليومية من بين أكثر الأعمال مشقّة في الحياة، ولا يدرك ذلك سوى مَن يمارس هذه المهمة الشاقة، وأصعب ما فيها أن تتعايش يوميا مع المشكلات والمتاعب ومواطن العجز والقصور، التي تتوحّد وتتداعى لتبلور لدى الكاتب توليفة مثالية قادرة على تفجير الإحساس بالاكتئاب الذي لا يكبح جماحه سوى قناعة الكاتب الذاتية بقيمة "الرسالة" التي يؤديها، ونبل الدور الذي يضطلع به من حيث إسهامه -بشكل أو بآخر وبأيّ قدر كان- في تغذية قوة الدفع التنموية، وفي تخفيف المعاناة عن الناس، وفي حل مشكلات وتجاوز عثرات قدّر لها الله سبحانه، أن تقفز إلى صدارة الأولويات على مكاتب المسؤولين من خلال نافذته الإعلامية.
ولا شك أن الخيار الأسوأ لأيّ كاتب، هو أن يكتب لمجرد الكتابة، وأن يحوّل قراءة عموده اليومي إلى همّ جديد، يضاف إلى كاهل مَن يحملونه بشكل طوعي تحت تأثير العادة أو حتى بهدف قتل الوقت، والخيار الأصعب لأيّ كاتب هو أن يكتب متحسساً ضميره المهني، ومتلمساً أطر المسؤولية الأخلاقية، ومحافظاً على كرامة الكلمة وهيبتها ومكانتها، وقليلون من الكتّاب تمكّنوا من فك شفرة القرّاء، والمشي على هذه الأشواك من دون السقوط إلى فخ "التطبيل" أو الانزلاق إلى هاوية النقد الجارح.
وإذا كان "أبوعوض" قد غادر مكانه الأثير، فجمهوره باقٍ، والجمهور بالنهاية هو مَن يصنع الكاتب، ويمنحه شرف التمثيل والصعود إلى منصة التتويج، والأمل ألا يشعر القرّاء بفراغ ما، وألا تستمر فرحة المتقاعسين بغياب "أبوعوض".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن نشرة أخبار الساعة
الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية