هناك عدد كبير من الروايات التي تنقل إلينا وقائع بداية الوحي المحمدي ومشاعر النبي إزاءه، روايات ترددها مصادرنا القديمة والحديثة، بصيغ متشابهة تختلف طولا وقصرا، استقصاء واختصارا، ولكنها تتفق في الجملة على ذكر المعطيات التالية:
1- إن محمداً بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم كان، عندما قارب الأربعين من عمره، يجاور في حراء -وهو جبل مطل على مكة على نحو بضعة كيلومترات منها- مدة شهر من كل سنة، كما كان قومه قريش يفعلون، وذلك بقصد التحنف (أو التحنث: العبادة والتبرر). فإذا قضى جواره بغار في هذا الجبل عاد إلى مكة. وكان خلال المدة التي سبقت بداية نزول الوحي عليه، يميل نحو العزلة: "فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده".
2- كما كان يكره الأصنام، ولا يقبل القسم بها ولا الاقتراب منها. وتفيد إحدى الروايات في هذا الصدد أنه حدث ذات يوم أن حاول عمه أبو طالب أن يقنعه بالذهاب معه لحضور احتفال كانت تقيمه قريش كل سنة لصنم كانت تعظمه وتُنسك له، وتدعوه "بوانة"، فامتنع امتناعا أثار غضب عمه. فقامت عماته وقد "غضبن عليه أشد الغضب"، وقلن له: "إننا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا". فلما أكثرن عليه ذهب وغاب مدة ثم رجع مرعوبا فزعا، فقلن له: "ما دهاك؟". قال: "إني أخشى أن يكون بي لَمَم" (مس من جنون). ثم سألنه : "فما الذي رأيت؟". قال: "إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك يا محمد، لا تمسه"!
3- وفي رواية أخرى: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا، وهو يومئذ ابن عشرين سنة، إلى عمه أبي طالب فقال: "أَعَمِّ، إِنِّي مُنْذُ لَيَالٍ يَأَتِيْنِي آتٍ مَعَه صَاحِبَانِ لَه، فَيَنْظُرونَ إليَّ ويَقُولونَ: هُوَ هُوَ ولَم يأنِ لَه. فإذا كَانَ رأيُكَ كرَجُلٍ منْهُم سَاكِتٍ فَقَدْ هَالَنِي ذَلكَ". فقال: "يا ابن أخي ليس بشيء، حلمت". ثم رجع إليه بعد ذلك فقال: "يَا عَمِّ سَطَا بي الرَّجُلُ الذي ذَكَرْتُ لَكَ فَأَدْخَلَ يَدَه فِي جَوْفِي حَتَّى إنِّي لأَجِدُ بَرْدَها".
4- وتقول إحدى الروايات "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا برز (خرج) سمع من يناديه: يا محمد. فإذا سمع الصوت انطلق هارباً. وذات مرة أتى زوجته خديجة وأخبرها بذلك. أسرَّت خديجة الخبر إلى أبي بكر، فأخذ أبوبكر بيده وانطلق به إلى ورقة (ابن نوفل، قس نصراني)، فقال له ورقة: هل ترى شيئاً؟ قال: "لاَ، وَلَكِنِّي إذَا بَرَزْتُ (خرجت) سَمِعْتُ النِّدَاءَ وَلاَ أَرَى شَيْئاً فَأَنْطَلِقُ هَارِباً فَإِذَا هُوَ عِنْدِي يُنَادِي". قال ورقة: "فلا تفعل. إذا سمعت النداء، فأثبت له حتى تسمع ما يقول لك". فلما برز سمع: يا محمد. قال: "لبيك". قال: قل: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". ثم أتى ورقة فذكر ذلك له فقال: "أبشر؛ ثم أبشر، ثم أبشر، أشهد أنك أنت أحمد، وأنا أشهد أنك محمد، وأنا أشهد أنك رسول الله، يوشك أن تؤمر بالقتال، وإن أمرت بالقتال وأنا حي فلأقاتلن معك".
5- وتؤكد الروايات نقلا عن عائشة زوجته: أن أول ما بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة الرؤيا الصادقة، لا يرى رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح. ويعلق بعض المؤلفين في السيرة النبوية على ذلك فيقول: إن الوحي كان يأتي الأنبياء في المنام كما يأتيهم في اليقظة، مستشهدا بما ورد في القرآن حول رؤيا إبراهيم عليه السلام حين خاطب ابنه: "قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى"! (الصافات 102). وواضح أن ما رآه الأب في المنام قد اعتبره الابن أمرا إلهياً، أي وحياً، (وهكذا في التوراة أيضا: فنبوات أنبياء بني إسرائيل –باستثناء موسى عليه السلام- كانت على صورة الرؤيا/ الحلم).
6- كما تؤكد الروايات أنه بهذا النوع من الرؤيا المنامية بدأ نزول الوحي على محمد عليه السلام. ذلك أنه حدث ذات ليلة من ليالي شهر رمضان، الذي اعتاد فيه الخروج لجواره في غار حراء، أن جاءه جبريل وهو نائم. وتحكي الروايات على لسان محمد عليه السلام وقائع هذا اللقاء مع ملَك الوحي جبريل، فتروي عنه أنه قال: "جاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج" الخ (قصة لقائه الأول مع جبريل ونزول "اقرأ باسم ربك..."). وعندما انتهى من حكاية ما جرى له في لقائه مع جبريل، قال: "انصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة مضيفا إليها" (ملتصقا بها)، فحدثها بما حدث له. وفي رواية أنه قال لها: "إني أرى ضوءا وأسمع صوتا، لقد خشيت أن أكون كاهنا"، وفي رواية أخرى: " وأخشى أن يكون في جنن".
7- وتضيف الروايات أن خديجة قامت وذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل و"كان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل" فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم... فقال ورقة: "لقد جاءه الناموس الأكبر (جبريل) الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة".
تلك روايات، لابد أن يكتنفها ما يكتنف الروايات عادة من نقص أو زيادة أو ما أشبه. ومع ذلك فليس من الجائز تكذيبها جميعها خصوصا ويزكي م