ليس الهمُّ الداخلي، رغم ضغوطه وتجاذباته المعقدة، هو أبرز التحديات التي تواجهها "حماس" اليوم، فالهمُّ الخارجي يمارس على قادتها ضغطاً أكبر بكثير، وإن كان يفتح أمامهم أيضاً فرصاً للمناورة إن هم أحسنوا الاختيار. وهنا تنفتح أمام الحركة ثلاثة مسارات يمكن أن تفاضل بينها وأن تمرِّر نفسها من خلال أي منها، خاصة أن تحركها الدولي -إذا نجح- هو ما سيضفي عليها شرعية خارجية تفتقدها، بعد أن حملت إليها صناديق الاقتراع شرعية داخلية مفاجئة. وأول المسارات هنا هو المسار الإسلامي المتشدد الذي تأخذ منه الحركة تقليدياً أصلها ومادتها، وإن اختارت "حماس" المضي في هذا المسار، فسيكون ذلك بداية مرحلة تصعيد لا سابق لها، ليس مع إسرائيل فقط، بل مع القوى العلمانية الفلسطينية من جهة، ومع العالم الغربي وبعض العالم العربي من جهة أخرى.
والمسار الثاني المفتوح أمام "حماس" هو أن تتخفف قليلاً من بعض أعباء الإيديولوجيا، وأن تتحلى بقدر من الحذر والشعور بالمسؤولية يسمح لها بالاحتفاظ بالخطوط العريضة العامة فقط من إيديولوجيتها، وأن تسعى في الوقت نفسه إلى تبني رؤية إسلامية تجديدية، وديمقراطية، وهنا تستطيع تسليك نفسها ومشروعها بسهولة، وفي سياق غير مُعادٍ، وبيئة غير معبأة ضدها، بشكل عام. ولعل زيارة قادة "حماس" إلى أنقرة خلال منتصف الأسبوع الماضي كانت علامة دالة لا يخطئها الملاحظ، عن الخانة التي يريد قادة "حماس" للعالم أن يصنفهم فيها، وسط هذا الاصطفاف المحموم المحيط بهم. كما لا يخلو من دلالة أيضاً ترحيب قادة الحركة الحار بدعوة الرئيس بوتين لهم، وإحجامهم في الوقت نفسه عن استخدام لغة متشددة في ردودهم على حملة التشكيك والتوجس الغربية إزاءهم، هذا إضافة إلى خفوت مظاهر العنف، واستعراضات القوة الطليقة بشكل عام في الأراضي الفلسطينية هذه الأيام. وميزة هذا السيناريو هي أنه سينتقل بالحركة من صفوف "المنظمات الإرهابية" المدرجة على اللوائح الأوروبية والأميركية، والمطلوبة "حية أو ميتة"، إلى صفوف الشريك السياسي الجاد والُمحرِج، للأوروبيين والأميركيين معاً، ودون أن تنبتَّ صلات الحركة أثناء ذلك مع جذورها الإيديولوجية، وديباجات خطابها السياسي الإسلامي العام.
أما المسار الثالث فهو أن تختط الحركة لنفسها طريقاً أكثر براغماتية من الخيارين السابقين، وهو أن تنخرط في عملية عزل ميكانيكي بين الإيديولوجيا، وبين ممارسة السياسة، فتفصِل بشكل قاطع بين خطاب "حماس"، الحركة السياسية الراديكالية الإسلامية الفلسطينية، وبين ممارسات وخيارات حكومة السلطة الوطنية الفلسطينية التي سيحمل حقائبها رجال فقط من "حماس". وهنا تصبح الخيارات المؤسسية، بديلاً للخيارات الفصائلية. وهذا ما مارسته "فتح" قبل "حماس"، منذ استلامها مقاليد الحكم، إذ كان أداء الوزارات في "السلطة" غير ملتزم بالضرورة مع خيارات حركة "فتح" الإيديولوجية الخاصة. ولكن الثمن أيضا كان باهظاً للغاية، حيث تفسَّخت تدريجياً العلاقة بين قطاعات "فتحاوية" واسعة وبين أجهزة "السلطة"، وهنا بدأت الانشقاقات، والحركات "الفتحاوية" غير الملتزمة بخيارات السلطة كـ"كتائب شهداء الأقصى" وغيرها من الحركات الناقمة، وكانت النتيجة في النهاية سقوط "فتح" المدوي في الانتخابات الأخيرة. ولو تبنت "حماس" بدورها مثل هذا الخيار الواقعي والمُؤلم، فإن احتمال تفسُّخ بنيتها التحتية الداخلية تبقى قائمة، بل مرجَّحة بقوة. ولا يستبعد أيضاً أن يكون ذلك دافعاً إضافياً لظهور حركات "فتحاوية" مقابلة في منتهى التشدد، وعندها قد تنقلب الآية، للمرة الألف، ونرى بيانات جديدة وشباناً ملثمين وعمليات صاخبة، تقوم بها "كتائب الشهيد محمد دحلان"، أو "ألوية الناصر جبريل الرجوب"، وترجع الأمور إلى المربع الأول من حيث بدأت، لا سمح الله.