تميز الاحتفال بالسنوية الأولى لغياب رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري (14 فبراير 2006) بحضورٍ شعبيٍ كثيف، اختلفت وكالات الأنباء في تقدير حجمه، لكنْ أحداً ما وضعه تحت خطّ المليون متظاهر. وقد خطَّطت وعملت لجمع هذا الحشد الهائل أطراف ما يُعرف بتحالف 14 آذار (مارس)، والذين سبق لهم أن جمعوا يوم 14 آذار(مارس) من عام 2005 أكثر من مليون نسمة في ساحة الشهداء، التي دُفن في جانبٍ منها الرئيس الحريري، والتي يقومُ فيها اليومَ ضريحه وجامع محمد الأمين (ص) الذي شيَّده الحريري وما اكتمل إلاّ بعد استشهاده.
البارزُ من الناحية الشعبية أو الجماهيرية أنّ أكثر المحتشّدين في الذكرى الأولى لغياب الرئيس الحريري هم من المسلمين السُنّة، والذين أتوا من المدن والأطراف والقرى والبلدات في سائر أنحاء لبنان. بيد أنّ الأطراف الأخرى من أهل 14 آذار، ومعظمهم من المسيحيين والدروز ما تهاونوا في الاحتشاد، بحيث بلغ عددهم حوالي ثُلُث التظاهرة أو أكثر قليلاً. وهناك ظاهرتان بارزتان لجهة الحشد الجماهيري: إن هذه ليست المرة الأولى التي ينزل فيها السنيون إلى الشارع، بل هي الثالثة خلال عام. نزلوا لأول مرةٍ في مأتم الرئيس الحريري. ونزلوا للمرة الثانية يوم 14 آذار (مارس) عام 2005، حيث أحدثوا هم وغيرهم من المحتشدين انقلاباً سياسياً كبيراً تمثّل في انسحاب القوات النظامية السورية من لبنان، وتمثّل أيضاً في اكتساح الانتخابات النيابية بعد ذلك، مما صنع أكثريةً في البرلمان الجديد، أكبر كتلةٍ فيها برئاسة سعد الحريري، ابن الرئيس رفيق الحريري. ثم نزلوا يوم 14 فبراير، أي قبل أيام، كما سبق ذكره. وكان السنيون قد غابوا عن الساحة الجماهيرية والتحشدات الكبيرة منذ وفاة الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970. وقد امتلأت شوارع بيروت منذ ذلك الحين بالحشود المسيحية ثم الشيعية، والتي أنهاها النزاع الداخلي الطويل، لتقتصر بعد ذلك على جماهير "حزب الله" وأحياناً حركة "أمل". وهكذا فهذه ظاهرةٌ جديدةٌ شعبياً وسياسياً، ستكونُ لها آثارٌ معتبرةٌ من الناحية السياسية بعد تغيُّر المواقع والتحالفات بالانسحاب السوري من لبنان.
أمّا الظاهرة الثانية فتتمثل في قدرة الأحزاب المسيحية المتحالفة مع "تيار المستقبل" على حشد جمهورٍ مسيحي كبير رغم غياب الجنرال عون ومحازبيه بخلاف ما حدث يوم 14 آذار عام 2005. والمعروف أنّ تيار الجنرال عون السياسي- وهو مسيحيٌّ بحت- حصد ثلثي النواب المسيحيين في الانتخابات الأخيرة، ثم انفصل تدريجياً عن تحالف 14 آذار، وانتهى به الأمر قبل أسبوعين حليفاً لـ"حزب الله"، على مشارف انتخاباتٍ محليةٍ في منطقة بعبدا/عاليه. عشية التحالف بين عون و"حزب الله" قيل إنّ الحزب حقّق اختراقاً سياسياً كبيراً، وإنّ شعبية عون المسيحية لم تتضرر، رغم الاختلاف السابق بينهما على سلاح المقاومة، والقرارات الدولية الداعية لنزعه. لكنّ احتفال14 شباط (فبراير) قبل أيام، أثبت أنّ الجمهور المسيحيَّ بدأ بالإعراض عن الجنرال نتيجة التحالف الجديد، وأنّ خصُوم عون السياسيين بدأوا يستفيدون من ذلك، كما تجلّى في الحشود المسيحية الكبيرة التي تمكنوا من استجلابها إلى ساحة الشهداء.
لكن، ماذا عن مطالب خطباء زعماء 14 شباط (فبراير)؟ تميزت سائر الكلمات المُلْقاة، وبخاصةٍ كلمة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بارتفاع السقف واللهجة؛ فقد هاجم الرئيس السوريَّ مباشرةً وبالاسم، وحمل على "حزب الله" حملةً شديدة، داعياً لنزع سلاحه باعتباره ميليشيا، ومعتبراً أنّ هناك تحالفاً ضد لبنان مكوَّناً من إيران وسوريا، و"حزبُ الله" طرفٌ فيه. وقد وصل به الأمر حدَّ إنكار لبنانية مزارع شبعا، وبالتالي لا داعيَ لتحريرها، باعتبارها "مسمار جحا" الذي يتحجج به "حزب الله" للإبقاء على مشروعية سلاحه في عيون اللبنانيين والمجتمع العربي والدولي.
وجارى باقي الخطباء الآخَرون- وعلى رأسهم سعد الحريري- جنبلاط في الحملة الشديدة على النظام السوري وعلى "حزب الله". لكنّ القاسم المشترك بينهم ظلَّ الدعوةَ لتنحية الرئيس إميل لحود، الممدَّد له من جانب السوريين في خريف عام 2004. وهكذا فالباقي والواقعي نسبياً من المطالب السياسية يوم 14 فبراير هو هذا المطلب الأخير، باعتبار الرئيس لحود الحاجز السياسي الثابت من النظام الأمني السوري/ اللبناني السابق. وهذا بغضّ النظر للحظة عن الآثار السياسية للحشد نفسه، وتأثيراته على الوضع الحكومي بلبنان، والعلاقة بين سوريا ولبنان. فلحزب الله وحركة أمل خمسة وزراء في الحكومة، يتفردون بتمثيل الطائفة الشيعية، وما يزالون يعلنون أنهم حلفاء النظام السوري؛ بالإضافة إلى وزيرين مسيحيين محسوبَين على رئيس الجمهورية. وكان الوزراء الشيعة قد اعتزلوا اجتماعات مجلس الوزراء لسبعة أسابيع، بعد خلافٍ في مجلس الوزراء على إقرار طلب محكمةٍ ذات طابعٍ دوليٍ، لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري. وقد بذل النائب سعد الحريري ورئيس الوزراء فؤاد السنيورة، جهوداً كبيرةً حتى أعادوا الوزراء المعتكفين إلى ا