المقال تعليق على موقف صفِّي جرى في الجامعة التي أدرِّس فيها؛ فقد قرر أحد فرق العمل لطلبتي إطلاق هذا الاسم على مجموعتهم التي تعمل على مدى فصل دراسي كامل لإنجاز أحد المشاريع، ومن هنا بدأ الحوار بيني وبينهم، حتى توصلنا إلى أهمية كون الدماغ فوق الطاولة وليس تحتها كما يُراد له عند البعض، وعندها طرح سؤال محرج نفسه: هل فعلا يُراد للعربي أن يكون دماغه تحت الطاولة أي مهمشاً وليست له قيمة؟ تأملت كثيراً في السؤال، كيف نرجع أدمغتنا إلى محلها الذي نصبها الله فيه ألا وهو فوق الرأس أو فوق الطاولة، هناك العديد من الطرق لكن أهمها يكمن في وجود الرغبة الصادقة لذلك، دعوني أحلل الموضوع من بعض الزوايا·
لماذا يكره البعض دماغه؟ سؤال مشروع، وإجابته جاءت قديما في قول العربي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وقد أحسن القائل، فاستخدام العقل يمنع الإنسان من أشياء كثيرة، ربما يعتقد البعض أنها مفيدة، دعوني أسوق لكم مثلاً، لو أن أحدنا همَّ بشراء قارورة ماء صحي، وقد كتب عليها تحذير من السلطات المختصة أن هذا الماء ربما يسبب بعض الأعراض الجانبية كالإسهال أجلَّكم الله، وشدة التعرُّق، كم منا سيسمح لنفسه شرب هذا الماء؟ سيرد لك العقل سريعاً أن هذا الماء ينبغي الامتناع عنه لأن ضرره أكثر من نفعه، نعم هكذا يزن العقل الأمور بلغة واضحة لأن دوره الأساس قيادة الناس لما فيه مصالحهم متى أحسنوا استخدامه· لكن هل يستخدم من يشرب السيجارة عقله؟ الجواب بالنفي لأنه لو فعل، فلن يهنأ بفعلته فعلى علبة السيجارة تحذير يقول، إنها سبب لبعض أنواع السرطان، لذلك يحاول البعض الابتعاد قدر المستطاع عن استخدام العقل· يوم الثلاثاء الماضي احتفل البعض بيوم العشق! كأن العشق لا يتجسد إلا في هذا اليوم، كلنا يعلم أن الخاسر الأساس في هذا اليوم هي الفتاه التي تستغل عاطفتها كي يأنس ويتلذذ بها الرجل برهة من الزمن ثم يتركها، لو استخدمت الفتيات عقولهن لحاربن مثل هذا التوجه ولسعت جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة إلى محاربة هذا اليوم، لأن العقل يقول لنا إن المرأة إنسان وُجد لعمارة الأرض شأنها كالرجل، فلماذا تكون هي الضحية؟ ربما يكون الجواب في وضع العقل تحت الطاولة، الخلاصة هي أن من يستخدم عقله قد يتعبه هذا الاستعمال، ويمنعه من كثير من الأشياء التي قد يحبها لأن ظاهرها الرحمة لكن عاقبتها العذاب الشديد في الدنيا وربما يوم الدين·
إذا كانت الأمثلة السابقة مرتبطة بنا كأفراد، ففيما يلي مثل من السياسة لأنها تهمنا كمجموعة، تأمل في الدول التي تشجع مواطنيها على استخدام عقولهم، لقد تحول كل إنسان فيها إلى مواطن إيجابي يعتقد أن له دوراً في صناعة أمته، فعمل على تطوير المجال الذي يعمل فيه· في أحد مؤتمرات التفكير التي حضرتها كان المحاضر رئيس وزراء سنغافورة التي أُعجب العالم بتطورها، قال المحاضر، في كثير من دول العالم يعتقد الناس أن القائد هو من يفكر ويبدع وما على الأتباع سوى التنفيذ، وبهذا تتلخص الشعوب كلها في صورة الزعيم، أما عندنا في سنغافورة، فقد شجعنا الكل على الإبداع، وكم تفاجأنا كون الأفكار الإبداعية في أحيان كثيرة يكون مصدرها عامة الناس وليس الزعيم أو القائد أو المدير، نعم لو فكر كل عربي لما وصلت أمتنا إلى ما نحن عليه· فمن يساعد البعض في وضع الدماغ فوق الطاولة؟