فيما لو تفشى وباء أنفلونزا الطيور بينما بقي علاج ''تاميفلو'' والأمصال الواقية منه على شحها وقلتها، فربما تكون الحماية الوحيدة المتبقية لغالبية الأميركيين هي إجراءات ''العزل الاجتماعي'' التي هي التسمية الصحيحة والبديلة لتعبير ''الحجر الصحي'' كما يقول الخبراء· ولا يعني ذلك بالطبع خلو العزل الاجتماعي نفسه من بعض التعقيدات والإجراءات الكارثية الصعبة مثل ارتداء الأقنعة والابتعاد عن المصاعد وكل ما يجمع بين الناس· ومن رأي الخبراء الصحيين، أن في وسع إجراءات العزل هذه أن تؤمن الطريقة التي نتفاعل بها مع بعضنا بعضا، على الأقل خلال الأسابيع الأولى من انتشار الوباء· والذي يتوقعه الخبراء من انتشار الوباء، لا يقتصر على استعادة لبعض أمر ذكريات التاريخ، ولا على أوروبا القرون الوسطى وحدها، حيث أودى انتشار الطاعون والأوبئة بحياة ثلث العامة والأيدي العاملة تقريباً، مسفراً عن شح في العمالة اهتز له النظام الاجتماعي الاقتصادي بكامله وقتئذ·
أما في الولايات المتحدة الأميركية، فقد أصبح المواطنون أكثر حذراً في ممارساتهم الجنسية خلال عقد الثمانينيات، جراء انتشار وباء الإيدز، قياساً إلى تساهلهم إزاء المتعة الجنسية العابرة في عقدي الستينيات والسبعينيات على سبيل المثال· والملاحظ أن سرعة انتشار أنفلونزا الطيور، تفوق كثيراً سرعة انتشار وباء الإيدز و''سارس'' بل وحتى طاعون العقد الليمفاوية· ولهذا السبب، من المتوقع أن ينصب اهتمام الثورة الاجتماعية في مجال مكافحة الأوبئة على هدف واحد رئيسي، مقدم على جميع الأهداف الأخرى، هو ابتعاد الأفراد عن بعضهم بعضاً بمقدار طول الذراع على الأقل· ولذلك فإن ضربة خفيفة على مرفق اليد، ربما تحل محل المصافحة باليدين عند لقاء الأفراد وتبادلهم للتحية فيما بينهـم· والذي يحــدث لا إرادياً عند المصافحة هو احتمال أن يعطس شخص مصاب بالفيروس في راحة يده، فينتقل منها الفيروس إلى شخص آخر دون أن يعي أي منهما ذلك عندما يتصافحان· وعندها قد يضع الشخص المعافى أحد أصابع يده الملوثة في عينه أو فمه فيسري الفيروس إلى جسده· ولذا فإن الضربة الخفيفة على المرفق بدلاً من المصافحة، ستحل هذه المشكلة تماماً وتساعد في وقاية الأفراد من انتقال عدوى الفيروس·
وكان الدكتور مايكل بيل -المدير المشارك لبرامج مكافحة العدوى في المراكز الفيدرالية لمكافحة الأمراض والوقاية منها- قد سبق الآخرين سلفاً إلى تحية الآخرين بضرب المرفق بدلاً من مصافحتهم، عدة مرات سابقة للاستعدادات الجارية الآن للوقاية من أنفلونزا الطيور· فما أن بدأ وباء حمى ''إيبولا'' بالانتشار في إفريقيا، حتى كان الدكتور بيل واحداً من بين الخبراء الأميركيين الذين ابتعثوا للمشاركة في مكافحة الوباء· وعلى حد قوله، فإن من واجب الخبراء واختصاصيي مكافحة الأمراض والأوبئة أن يسبقوا الآخرين إلى ممارسة العادات الاجتماعية الجديدة الواقية من الأمراض، حتى يقدموا بذلك القدوة الصحية للآخرين· وفي سبيل إقناع القرويين البسطاء في كل من أنجولا والكونغو بأهمية تبني أنماط سلوكية اجتماعية جديدة تساعد في الحد من تفشي حمى ''إيبولا'' بينهم، فقد كان على الأطباء وخبراء الصحة الزائرين بذل كل ما بوسعهم لمنع الأهالي من غسل جثث موتاهم بأيديهم أو أن يستخدموا أيديهم العارية عند عنايتهم بذويهم من المرضى المصابين بالوباء· والمعروف أن السبب المباشر المؤدي للوفاة عند الإصابة بالوباء هو النزيف الدموي·
هذا وفي الإمكان فرض إجراءات العزل الاجتماعي هذه، على مواطني مدينة مثل نيويورك، خاصة استبدال ضربة المرفق بعادة العناق والمصافحة عندهم· غير أن المشكلة أن هناك عادات اجتماعية أخرى، يصعب على أهل تلك المدينة التنازل عنها· وللمزيد من التوضيح قال الدكتور آيزاك وايز فيوز -نائب المفوض الصحي لمدينة نيويورك والمسؤول عن عمليات الاستعداد لأنفلونزا الطيور- إن أول خطوة سيخطوها في اتجاه وقاية مواطني المدينة من الوباء، هي منع المباريات الكبرى للعبة البيسبول، وكذلك منع العروض المسرحية التي يقدمها مسرح برودواي، فضلاً عن وقف العروض السينمائية والمواكب الاستعراضية الراقصة، وغيرها من أشكال التجمعات السكانية الكبيرة التي اعتادت عليها المدينة· وربما كان من المفيد أيضاً إغلاق المدارس وإيقاف التنقل الجماعي بواسطة مترو الأنفاق، خاصة وأن الأطفال هم الأكثر عرضة لالتقاط الفيروس ونقله بين الآخرين مقارنة بالكبار· والمعروف عن محطات مترو الأنفاق أنها مغلقة وأن العطسة الواحدة فيها كفيلة بتلويث الهواء كله داخلها· غير أن هناك صعوبات عملية تعترض تنفيذ مثل هذه الإجراءات المتشددة، لاسيما وأن المواطنين يتحدثون عن ''أيام الأنفلونزا'' من الآن، وكأنها ستكون بضعة أيام أو مجرد أسبوع واحد يحدث فيه هطول الجليد وينتهي الأمر! وبالطبع فإن المسألة ستكون مختلفة جداً فيما لو امتدت أيام الأنفلونزا لبضعة أسابيع أو أشهر· ومن بين الصعوبات أيضاً أن العاملين والموظفين لن يستطيعوا الوصول إلى أماكن عملهم في