في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي ساد الدوائر الفكرية والسياسية في العالم اتجاه عام يتمثل في أن هناك متغيرات دولية جديدة سياسية واقتصادية وثقافية ينبغي دراستها والتعمق في تحليلها· وقد وصلت رياح هذا الاتجاه إلى الوطن العربي، وترجم عن نفسه في الدوائر الفكرية والسياسية· والدليل على ذلك أن دولاً عربية متعددة طلبت من مراكز الأبحاث الاستراتيجية إعداد دراسات عن هذه المتغيرات الدولية الجديدة، والتنبؤ المبكر بتأثيراتها المحتملة على الوطن العربي· وقد قدمت لمركز الأهرام عام 1985 -وكنت في هذا الوقت مديراً له- اقتراحاً بإصدار تقرير استراتيجي عربي يصدر سنوياً· وصدر أول عدد للتقرير الاستراتيجي العربي عام 1986 وقد صدرته بمقدمة تحليلية كان موضوعها ''نحو رؤية عربية للدراسات الاستراتيجية''·
كنا كباحثين استراتيجيين عرب مازلنا نتحسس أقدامنا ونحن نرتاد مجالات بحثية جديدة لم يسبق للعقل العربي أن خاض فيها· وقد انطلقت هذه الدراسة النقدية المبكرة من استعراض نقدي للاتجاهات الاستراتيجية البارزة في العالم، وبناء على ذلك طرح سؤال هو: ''هل الإطار المفاهيمي السائد في الدراسات الاستراتيجية الغربية قادر على معالجة المشكلات الاستراتيجية في العالم الثالث؟''·
طرحنا هذا السؤال لأننا كنا بصدد تأسيس ''الخطاب الاستراتيجي العربي''· وكان علينا أن نقرر مبكراً، هل تصلح النماذج الاستراتيجية الغربية للتطبيق على العالم العربي أولا؟ ولم نقف عند حدود السؤال ولكننا قدمنا الإجابة حين أصدرنا العدد الأول من التقرير الاستراتيجي العربي عام ·1986 وقد احتفل مركز الأهرام عام 2005 بمرور عشرين عاماً على صدور التقرير الاستراتيجـــي العربــــــي برئاســـــة د· حســــــن أبـو طالب، الذي أدخل عليه تغيرات شتى في الشكل والمضمون·
وقد لا يكون من قبيل الصدفة البحتة أنه في الوقت الذي يحتفل فيه مركز الأهرام بمرور عشرين عاماً على إصدار التقرير الاستراتيجي العربي، فإن مركزاً استراتيجياً عربياً جديداً تقرر إنشاؤه في جامعة الدول العربية قد بدأ هذا العام نشاطه الفعلي·
وقد تابعنا بدقة المحاولات الإبداعية لضخ دماء جديدة في جسد جامعة الدول العربية من خلال استحداث مؤسسات جديدة، من أبرزها إنشاء البرلمان العربي والذي يعد إضافة حقيقية للعمل العربي المشترك، وآلية دستورية فعالة لترسيخ الهوية العربية، من خلال صدور قرارات سياسية واقتصادية وثقافية مهمة لتطوير أداء المجتمع العربي في مختلف الصعد، حتى يكون جاهزاً لمواجهة تحديات العولمة والتي هي الظاهرة التاريخية التي تملأ الدنيا وتشغل الناس، والتي لها تجليات متعددة سياسية واقتصادية وثقافية واتصالية·
وفي تقديرنا أن إنشاء مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية بجامعة الدول العربية يعد استجابة للعصر الذي نعيشه، وهو يعكس استفادة إيجابية من تراكم الخبرة العلمية للاستراتيجية العربية عبر أكثر من عقدين، بالإضافة إلى تواصل الفكر الاستراتيجي العربي وانتقاله من مرحلة إلى مرحلة، وإذا كنا في مركز الأهرام للدراسات السياسية قد شغلتنا منذ عقدين من الزمان مشكلة ترسيخ تقاليد عربية رصينة في البحث الاستراتيجي العربي، فإن المشكلة البحثية الأساسية التي يواجهها مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية الناشئ بجامعة الدول العربية هي كيف يمكن للعالم العربي مواجهة تحديات العولمة، وضرورة صياغة رؤية استراتيجية عربية متكاملة تضم حزمة من التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في وقت ينتقل فيه العالم من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي والذي يتحول -ببطء وإن كان بثبات- إلى مجتمع المعرفة· وربما كان من حسن الطالع أن يتجه السفير الدكتور سعود عبدالعزيز الزبيدي مستشار أمين جامعة الدول العربية ورئيس مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية للتعاون مع فريق من خبراء مركز الأهرام بقيادة كاتب المقال باعتباره مستشاراً للمركز الجديد، وذلك للتعاون في تنفيذ برنامج علمي متكامل يحقق الأهداف التي حددت للمركز· وقد عقدت بمقر المركز الجديد جلسة علمية قدمت فيها خمسة عروض متميزة عن تغيرات النظام الدولي وآفاقها المستقبلية، والنظام الإقليمي العربي من زاوية الرصد الدقيق لوضعه الراهن، وإمكانيات تطوره، والوضع الاقتصادي العربي وتطويره في ظل إدماج الاقتصاد العربي في اقتصاد العولمة، والبنية الاجتماعية والثقافية، وأخيراً وإن لم يكن آخراً مشكلات الأمن القومي على الصعيد الدولي والإقليمي·
وهكذا يمكن القول إن مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية بجامعة الدول العربية والذي سيؤسس لخطاب استراتيجي عربي على مستوى الدول العربية لأول مرة، سيواجه المشكلات الكبرى التي ترتبت على الانتقال من الحرب الباردة إلى العولمة· ولعل أولى هذه المشكلات هو سقوط النظام ثنائي القطبية الذي دارت في جنباته المعارك الضارية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية وبروز النظام أحادي القطبية الذي تنفرد فيه القوة الأ