منذ تلك اللحظة التي قررت فيها الولايات المتحدة إطاحة نظام صدام حسين الوحشي، ومساعدة العراقيين على بناء حكومة تمثل جميع طوائف وفئات الشعب، كان أحد التحديات الرئيسية التي واجهتنا هناك هو تمكين زعماء الجماعات العراقية الرئيسية من التغلب على عدم الثقة والخوف اللذين يشعران بهما تجاه بعضهم بعضا؛ فقد كان صدام بارعاً في الإيقاع بين كل جماعة والأخرى وخلق الانقسامات بينها، وبعد سقوط نظامه أدى التمرد والعنف الطائفي الذي ابتلي به العراق إلى تعميق تلك الانقسامات، وهو ما بدا واضحاً في الانتخابات الأخيرة التي صوت العراقيون فيها على أساس خطوط عرقية ودينية·
وهناك عملية تمضي قدماً الآن لتجسير الفجوة بين المواقف المختلفة· ففي الرابع من فبراير الجاري، قمت باستضافة زعماء الأحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية الأخيرة على حفل غداء· وقد اشتملت قائمة الحاضرين على زعماء من العرب الشيعة كرئيس الوزراء إبراهيم الجعفري، وزعماء أكراد، على رأسهم مسعود البرزاني رئيس حكومة إقليم كردستان، وزعماء من السُنة العرب مثل رئيس المجلس الوطني السيد حاجم الحسني، والسيد عدنان الدليمي رئيس ''جبهة التوافق العراقية'' وغيرهم، والهدف من هذا اللقاء هو البدء في عملية تشكيل حكومة وحدة وطنية· وكانت المناقشات التي تمت في هذا الإطار محتدمة وتغلب عليها النواحي العاطفية إلى حد كبير· فكل رئيس من رؤساء الجماعات العراقية شعر بالألم الذي عانت منه طائفته خلال مرحلة التحول الصعبة التي أعقبت سقوط صدام، ويحاول التعبير عنه، والشيعة العرب من جانبهم عبروا عن شعورهم بالمرارة جراء المئات من عمليات التفجير والهجمات الانتحارية التي أدت إلى مصرع الآلاف من العراقيين الأبرياء· أما السُنة العرب، فاشتكوا مما يعتبرونه تعذيبا تمارسه ضدهم قوات الأمن التابعة للحكومة العراقية، والتغلب على أسباب هذه الشكاوى لن يكون سهلاً·
على أن اللحظة الحالية تبقى بعد ذلك لحظة للفرص؛ فبفضل جهود التواصل المنهجية التي بذلتها الولايات المتحدة -وأسباب أخرى- تمكن السُنة من إجراء تغيير شامل في موقفهم من المشاركة في الحكم في فترة ما بعد صدام بلغ ذروته في خروجهم بأعداد ضخمة للمشاركة في الانتخابات التشريعية التي جرت خلال شهر ديسمبر الماضي· لقد توصل السُنة في نهاية المطاف إلى إدراك أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى احتلال بلادهم بشكل دائم، وربما يكونون قد اقتنعوا بأن العنف المتواصل سيؤدي إلى تدمير مستقبل بلادهم· وللبناء فوق هذا التقدم، فإن الزعماء العراقيين بحاجة الآن إلى الاتفاق فيما بينهم على عملية يتم من خلالها توحيد البلاد·
في البداية يجب على هؤلاء الزعماء أن يعرفوا أنهم بحاجة إلى تكوين حكومة وحدة وطنية· ولكن ما أود قوله إن الزعماء العراقيين يجب أن يدركوا أن هذا لا يعني تقسيم الوزارات فيما بينهم على أساس طائفي، ولا يعني أن تقوم كل وزارة بمراعاة المصالح الضيقة للطائفة أو العرق أو الحزب الذي ينتمي إليه الوزير، وتتجاهل بالتالي مصالح الطوائف والأعراق والأحزاب الأخرى، وإنما يعني اختيار الوزراء من بين جميع الأطياف العراقية التي ستقوم ببناء الجسور السياسية والتي ستلتزم بهدف العراق الموحد، والذين تتوافر لهم الكفاءة المهنية التي ستمكنهم من الاضطلاع بمسؤولياتهم، فتشكيل الوزارة القادمة على الوجه الصحيح أهم من تشكيلها بسرعة·
علاوة على ما تقدم، يجب على القادة العراقيين أن يتفقوا على آلية لاتخاذ القرارات يكون الهدف منها منح الأقليات السياسية الثقة في أن الغالبية ستسمح لهم بالمشاركة في السلطة وستأخذ همومهم المشروعة في الاعتبار· والزعماء العراقيون يعتقدون أن ذلك يمكن تحقيقه من خلال تشكيل مجلس يتكون من الزعماء العراقيين الرئيسيين للتركيز على الموضوعات ذات الأهمية القومية، والزعماء المنتخبون بحاجة لأن يحكموا من موقع الوسط وليس من المواقع الأيديولوجية المتطرفة· وينطبق هذا بشكل خاص على المجال الأمني· ويجب في هذا السياق أن تعمل الحكومة الجديدة التي سيتم تشكيلها على زيادة قدرات قوات الأمن العراقية مع ضمان أن وزيري الداخلية والدفاع سيتم اختيارهما على أساس الكفاءة وليس على أي أسس أخرى مثل الخلفية العرقية أو الطائفية· فضلاً عن ذلك، فإن الحكومة يجب أن تبدأ على الفور في مهمة تفكيك المليشيات المسلحة الموجودة في مختلف مناطق البلاد·
والخطوة التالية بعد ما تقدم هي أن يتفق الزعماء العراقيون على ميثاق وطني حقيقي لبلدهم يحمل في طياته رؤية، ومجموعة من القواعد السياسية التي توفر الاستقرار وتؤدي إلى التقدم· ومما يجدر ذكره في هذا السياق أن الدستور الجديد قد كلف الجمعية الوطنية الجديدة بمسؤولية معالجة العديد من المسائل الأساسية التي لم يتسن التوصل إلى حل لها· وهذه المسائل تشمل رسم الخطوط العامة لفدرلة المناطق غير الكردية، وتقسيم المسؤوليات بين المستويات الحكومية المختلفة· وفي هذه المفاوضات يجب على الزعماء العراقيين التوصل إلى اتفاقيات لكسب المزيد من الدعم