برز خطاب التفكيك والتفكيكية في مرحلتنا المحلية والعالمية المعيشة بقوة متصاعدة تصاعُد الشرخ الذي أخذ يجتاح العالم دون استثناء، والذي انطلق من المرحلة التي تعتبر -بحق- إقلاعاً باتجاه عالم جديد وتاريخ جديد، وقد تجلى ذلك بداية من عام ·1989 بيد أن ثمة فرقاً بين هذا القول الذي لا يقود إلى ''قطيعة'' بين التاريخ الجديد والتاريخ السابق عليه، من طرف، وبين قولٍ يأخذ بهذه القطيعة الكلية، إضافة إلى الاعتقاد بهيمنة التاريخ الجديد (العولمة الأميركية) وبديمومته من طرف آخر· وقد أثار ذلك الخطاب أصداء شتى لدى نخب من المفكرين وضمن مؤسسات ومراكز بحثية، يأتي في مقدمتها خطاب ثقافوي يجد في الثقافوية Kulturalismus تعبيره الاصطلاحي· ويمكن أن نرى في الباحث الألماني W. Schiffauer نموذجاً لمن عالج الظاهرة المذكورة، بصيغة أولية، حيث نشر دراسة مطولة عام 1999 بعنوان ''دينامية الثقافة وبنْينة الذات''·
وبعد الإشارة إلى مجموعة من التغيرات الرئيسة في المشهد العالمي الراهن (ثورة الاتصالات، وبروز الثقافات، وحركات الهجرة العالمية، وأزمة الدولة الوطنية···)، يقترح أربعة مداخل إلى العالم الراهن؛ أولها مدخل خاص بمجتمع الثلثين، وهما ثلثا ''المهمّشين والطارئين''· وثانيها مدخل يتأسس على القول بـ''نهاية التقدم الإنساني''، في وقت تتعاظم فيه وتائر التقدم الاقتصادي والتكنولوجي والمعلوماتي· أما المدخل الثالث فيفصح عن نفسه في ''نهاية الدولة الرعائية''، وفي التبشير بعجز الدولة الوطنية عن التأثير باتجاه المساواة بين مواطنيها وضبط التفاوت الاجتماعي عبر محاصرته· وأخيرا يتكرس المدخل الرابع لـ''الثقافة'' أو ''المجتمع متعدد الثقافات''، وهو مجتمع يتجاوز ''الوطن'' كتجمع بشري يُناط به مصير الشعب أو الأمة، كما تُناط به المسؤولية عنه، بما يعني أن المجتمع المدني لم يعد قادراً على إنتاج تضامن داخلي على أساس اللغة المشتركة والآراء والتقاليد الثقافية·
ولأهمية هذه ''المداخل'' بالاعتبارات المنهجية والنظرية والسياسية، فلابد من الإشارة إلى مفاصلها الكبرى؛ فالكلام على ''مجتمع الثلثين'' ليس جديداً على البلدان الصناعية القائمة، لكن الملفت هنا يتمثل في تحديد ''الثلثين'' المذكورين بكون أفرادهما يحملون سمة ''المهمّشين'' و''الطارئين''، بدلاً من ''المستغَلّين'' و''المستقِرّين'' الذين حملوا ''فيما قبل'' شخصية ''طبقات وفئات اجتماعية'' تتحرك لتؤلف ''شعباً أو أمة''· فالعاطلون عن العمل كانوا يمثلون -في المجتمع الصناعي التقليدي- خزاناً بشرياً لتنظيمات سياسية ونقابية يسارية توجه نشاطها ضد أصحاب العمل· وكان ذلك يتم خصوصاً بصيغة التحالف بين أولئك العاطلين عن العمل وبين قوى سياسية تضم جمهوراً مرموقاً من المثقفين الذين طالما قدموا مشاريع سياسية وثقافية كبديل للنظام الاجتماعي الاقتصادي والسياسي القائم·
لكن المجتمع ''ما بعد الصناعي'' الجديد، على حدّ تعبير شِفّاور، لم يعد يحتمل ذلك التناقض لسبيين اثنين، أولهما يتمثل في تفكك الطبقات والفئات والمجموعات وفي تذرّرها على نحو يؤدي إلى تحلل إمكاناتها، لتأسيس مشاريع سياسية وثقافية ضمن نظم اجتما- اقتصادية· أما السبب الآخر فيقوم على أن التعددية الثقافية والإثنية أصبحت الحالة المهيمنة، مما يعني تساقط المشكلة العظمى الجامعة، والتي برزت في المجتمع الوطني، وهي تتلخص في مفهومَيْ ''المصير والمسؤولية''· بمعنى أنه لم يعد هناك ما يجمع أفراد المجتمع ما بعد الصناعي أكثر من كونهم ذواتاً كلُّ واحدة منها تملك خصوصيتها وهويتها· فهو نمط من تجمّع جُزرٍ بخصوصيات وهويات مختلفة، تفتقد العلاقات التي توحدها أو تربط بينها بالبعد الأفقي، لصالح علاقات ببعد عمودي· ومن ثم، لا مكان لرابط بينها في المصير الواحد والمسؤولية الواحدة· وحيث يكون الأمر كذلك، فإن كلاماً عن ''اندماج اجتماعي'' بين أفراد المجتمع، يصبح غير ذي معنى· ومعروف أن مرحلة الستينيات من القرن المنصرم اتسمت بسمتين اثنتين، على صعيد ما نحن بصدده: النمو الاقتصادي، والاندماج الاجتماعي· وقد انهارت السمة الثانية، لتبقى السمة الأولى، ولكن لجهة تسويغ ''مجتمع الثلثين''، أي مجتمعٍ من المهمشين الطارئين، الذين لا يملكون الحرية ولا إمكانية الحركة الجماعية ولا ما يجمع بينهم· فكأن شفاور هنا يتحدث عن أولئك الذين يفترشون الحدائق العامة وأرصفة الشوارع والمتروهات وزواريب الأحياء في برلين ولندن وواشنطن وغيرها· وعلى هذه الصورة، تتحول مقولة ''الجماهير تصنع التاريخ'' إلى مقولة ''نهاية التاريخ العام'' واستبداله بتواريخ عددُها بعدد الإثنيات والطوائف، بل بعدد الأسَر والعائلات والفرق الرياضية والغنائية وغيرها· ولقد نشأت تلك الأفكار، التي تستجمعها ''الثقافوية'' في الولايات المتحدة وبلدان أوروبية معينة، في حالة زمنية عربية لم تتحرك مشكلاتها الهائلة المعلقة منذ مرحلة الإخفاق النهضوي في مصر وبلاد الشام وتونس· وهي حالة تخترق البنى الاجتماعية والسيكولوجية في العالم ال