من حق قادة ''حماس''، وهم في طريقهم إلى موسكو التي كسرت الحصار الغربي المفروض على الحركة التي اكتسحت الانتخابات الفلسطينية الأخيرة، فدعتهم للتفاوض كممثلين للشعب الفلسطيني، أن يسترخوا قليلاً على مقاعد طائرتهم، ويرسموا ابتسامة فخر ورضا على وجوههم، بينما يسترجعون ذكريات سنوات خلت، عندما كانوا يبحثون عن شرعية ما من بين ما احتكرت لنفسها ''منظمة التحرير الفلسطينية''، والتي جمعت في زمن واحد كل القضية الفلسطينية في يدها، وكل الأوراق والمواقف، وكل السلاح والعلاقات الخارجية، وكل المال وخطابات التوصية ووثائق السفر والمنح الدراسية، وكل الأخطاء أيضا و··· معها بعض الإنجازات·
بدأت ''حماس'' رحلتها الطويلة إلى موقع قيادة الشعب الفلسطيني من صفوف الطلبة، بدأت كمجرد ''رابطة إسلامية لطلبة فلسطين'' في جامعة الكويت والأردن وفي أوروبا وأميركا أيضاً تحت مسميات عدة في نهاية عقد السبعينيات الميلادية، والذي شهد أيضاً انطلاق الحركة الإسلامية الحديثة حول العالم الإسلامي ومعها أيضاً الحركة الإسلامية الفلسطينية، كان درباً طويلاً شقته بصعوبة ضد تيار المنظمة وضد تيارات عدة في الدول التي نشطت فيها، ولكن مع ذلك ساعدتها ظروف عدة، أهمها أخطاء ''المنظمة''، فسكتت عن نشاطها تلك الدول التي ضاقت بـ''المنظمة'' وتخبطها، ومثلما انطلقت ''فتح'' من الكويت، انطلق جزء كبير من ''حماس'' منها أيضاً· حتى في الأراضي المحتلة قيل إن إسرائيل تركت الحركة الإسلامية الفلسطينية تنمو ويشتد عودها، لتكون منافسا قويا للمنظمة، ويمكن قبول هذه النظرية الشائعة في جزئيتها الإسرائيلية فقط، ولكن ''حماس'' لم تنمُ وتزدد نفوذاً بسبب السماح الإسرائيلي وإنما بسبب ''الإسلام'' الذي يبحث عمن يتبناه في المجتمعات العربية والإسلامية، فكان حال ''حماس'' من حال الإسلاميين الآخرين من حولها والذين شهدوا امتداداً وصعوداً خلال نفس الحقبة الزمنية ولا زالوا·
لابد أن الذاهبين منهم إلى موسكو سينتبهون لمفارقات الزمن، فهذه العاصمة ترمز إلى التحدي الأول الذي واجههم في سنوات النضال الأولى كطلبة، كان الصوت الأعلى هو اليسار، حيث التأييد للقضية والدعم المادي والمعنوي، القادم من موسكو ومعه الثورة والعلاقات الخاصة والمنح الدراسية والدورات التدريبية ومعسكرات الشبيبة والسهر والفرح والشعر والنضال الممتد منها إلى بيروت وعمّان وبغداد ودمشق، كان ''الحماسيون'' في زمن يفاعتهم منعزلين عن ذلك كله، ينظرون إليه شزراً، بتطهر وتعفف وربما حرمان أيضاً، ولكن لم يكونوا بعيدين عنه، فأخبار الثورة والثوار تأتيهم أولاً بأول، فما من عائلة فلسطينية إلا وقد توزع الإخوة فيها على كل المنظمات، الفدائيون ينظرون لهم كدراويش أو رجعيين غير مدركين لأبعاد الصراع وحتميات المواجهة مع الإمبريالية العالمية وأذنابها·
لم يقتنع الإسلاميون الفلسطينيون أن الطريق إلى القدس يمر عبر عمّان أو جونية، فنجوا من صراعات المنظمات مع الأنظمة العربية المختلفة· ولم يتفقوا مع توجهات منظمة التحرير ''اليسارية''، ولم يستطع الإخوان السابقون في المنظمة بناء جسور بين الطرفين، ومضت الحركة الإسلامية الفلسطينية تشق طريقها منفردة، ضد واقع صعب، كان حالهم من حال شعبهم، في شتات، لم يكونوا تحت حركة واحدة، وإنما تبعاً للحركة القائمة في البلد الذي هم فيه، والتي هي في العادة فرع ''الإخوان المسلمين'' المحلي، كانوا مجرد ''شُعب'' تتمتع ببعض من الاستقلال الذاتي بحكم خصوصيتهم كفلسطينيين، تدريجياً بدؤوا في تطوير عملهم ووجودهم إلى روابط معلنة للطلبة الفلسطينيين حيثما يسمح النظام بالعمل المعلن كالكويت (رئيس المكتب السياسي الحالي لحماس كان رئيسا لرابطة الطلبة في الكويت) وفي الأردن بل حتى في الولايات المتحدة وبريطانيا·
كانت معركتهم الأولى هي تجميع هذا الشتات في حركة واحدة، فانتزعوا موافقة التنظيم الدولي لـ''الإخوان'' وظهرت حركة المقاومة الإسلامية ''حماس'' في خريف ،1988 لم يهتم أحد بذلك مثلما لم يهتم أحد بإعلان ''الجبهة الإسلامية للإنقاذ'' في الجزائر بعد ذلك بعام واحد، بدا ذلك الزمن وكأنه زمن الإسلاميين· سيتذكر الذاهبون لموسكو كيف رفض ''أبو عمار'' عرضهم عليه أن يمثلوا في ''منظمة التحرير الفلسطينية'' بأربعين في المئة فقط، ولعل أمامهم ملف إعادة ترتيب المنظمة يراجعونه ويقطعون به وقت الرحلة الطويل إلى موسكو، لقد قطع هؤلاء الشباب شوطاً طويلاً كي يصلوا إلى هنا·
إن هذا هو الإنجاز المهم لـ''حماس''، والذي عليهم أن يحافظوا عليه، إنهم اليوم الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، ليس بقرار من استخبارات عربية ما، أو حتى قمة عربية، وإنما باختيار حر من الشعب الفلسطيني، يستطيعون القول وبفخر إنها المرة الأولى التي يختار فيها الفلسطينيون ممثلهم بحرية· هذه الحقيقة، وإنْ لم تستسغها الولايات المتحدة، لكنها لم تستطع أن ترفضها، هي ورقة قوية في يد ''حماس''، تضفي عليها مصداقية وتضاف إليها ''استقلالية'' الحركة في سياستها وظروف نشأتها،